مات ساحر الرواية، رحل صانع الدهشة، غادر عالمنا هذا العبقرى الرائع الصادم المستفز ببساطة أسلوبه الذى ما إن تحسب أنه بين أصابعك فإذا به يراوغك لأنه «هاند ميد» حقوقه محفوظة باسم جابرييل جارثيا ماركيز، منذ أن اكتشفناه، 1982، عندما أُعلن أنه قد حصل على جائزة نوبل والتهمنا رواياته وغرقنا فى عالمه العجيب الغريب الطازج البكر، لم أهتم وقتها بترجمة المصطلح الأكاديمى، هل هو واقعية سحرية أم واقعية عجائبية؟! ولم أهتم، هل قرية ماكوندو هى قرية حقيقية أم متخيلة؟! المهم أننى مع ماركيز وفقط، وهذا يكفى. وكلما اشتقت إلى دمع حقيقى يغسل أحزانى وروحى أتجه إلى رسالته التى كتبها بعد السرطان، فلتقرأوها معى: «لو شاء الله أن ينسى أننى دمية من خرق، وأن يهبنى حفنة حياة أخرى، سوف أستغلها بكل قواى. ربما ما قلت كل ما أفكر فيه، لكننى حتماً سأفكر فى كل ما سأقوله، وسأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه، سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نوم خسارة لستين ثانية من النور، وسوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلُّ نيام، لو شاء ربى أن يهبنى حفنة حياة أخرى سأرتدى ملابس بسيطة وأستلقى على وجه الأرض عارياً، ليس من جسدى وحسب بل من روحى أيضاً، وسأبرهن للناس كم يخطئون لو اعتقدوا أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، فهم لا يدرون أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق. للطفل سوف أعطى الأجنحة، لكننى سأدعه يتعلَّم التحليق وحده، والكهول سأعلِّمهم أن الموت لا يأتى بسبب السنِّ بل بفعل النسيان، لقد تعلمت منكم كثيراً أيها البشر.. تعلمت أن الجميع يريدون العيش فى القمة غير مدركين أن سرَّ السعادة فى كيف نهبط من فوق، وتعلَّمت أن المولود الجديد حين يشد على إصبع أبيه للمرَّة الأولى يعنى أنه أمسك بها إلى الأبد، تعلَّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف، بل تعلمت منكم أكثر! لكن، قليلاً ما سيسعفنى ذلك، فما إن أنهى توضيب معارفى سأكون على شفير الوداع. قل دائماً ما تشعر به وافعل ما تفكِّر فيه. لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التى أراكِ نائمة، لكنت آخذك فى ذراعىَّ وأصلِّى أن يجعلنى الله حارساً لروحك. لو كنت أعرف أنها دقائقى الأخيرة معك لقلت: أحبك، ولتجاهلت، بخجل، أنك تعرفين ذلك. هناك بالطبع يوم آخر، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل خيراً، لكن لو أننى مخطئ، وهذا هو يومى الأخير، أحب أن أقول: كم أحبك، وكم أننى لن أنساكِ، لأن الغد ليس مؤكداً لا للشاب ولا للكهل. ربما هذا آخر يوم نرى فيه من نحب، فلنتصرَّف، لئلا نندم لأننا لم نبذل الجهد الكافى لنبتسم، لنحنَّ، لنطبع قبلة، أو لأننا مشغولون عن قول كلمة فيها أمل. احفظوا قربكم ممن يحبكم وتحبُّون، قولوا لهم همساً إنكم فى حاجة إليهم، أحبوهم واهتموا بهم، وخذوا الوقت الكافى كى تقولوا: نفهمكم، سامحونا، من فضلكم، شكراً، وكل كلمات الحب التى تعرفونها. لن يتذكر أحد أفكاركم المضمرة، فاطلبوا من الربِّ القوة والحكمة للتعبير عنها. وبرهنوا لأصدقائكم وأحبائكم محبَّتكم لهم».