عندما قرأت خبراً عن إعلان عميد كلية الاقتصاد المنزلى أنهم فى المنوفية قد اخترعوا فص كبد صناعة مصرية خالصة، أخذته على سبيل الفكاهة، وقلت: لعله فص ثوم لا فص كبد! فلم تعد أعصابى تتحمل، ولم يعد مجدياً أن أتناول كل أقراص الضغط وحبوب الاكتئاب لتخفيف وطأة مثل هذه الأخبار التى باتت وجبة إفطار يومية فى صحفنا المصرية، لكنى استيقظت فجأة على تليفون طلب مداخلة فى برنامج مع عميد الكلية، فعرفت أن الأمر جد خطير، وأن سيادة العميد مصرٌّ على الترويج لاكتشافه الخطير الذى سيقلب موازين العلم فى مجرة درب التبانة. وبعد محاولات إقناع المعد بأننى فى يوم إجازة والمرارة على وشك الانفجار، استحلفنى بالصداقة، وكانت الطامة الكبرى، الرجل فعلاً واخدها جد وبيتكلم عن اقتناع بأن الفريق العلمى لكلية الاقتصاد المنزلى بالاشتراك مع كليتى الطب والعلوم قد توصلوا إلى إنتاج هذا الفص الكبدى ولن يحتاج مريض مصرى بعد هذا الفتح العلمى إلى متبرع كبد! وعندما سألته أين نُشر البحث ومتى قدمه لمؤتمر طبى عالمى، كان الرد: لسه ربنا يسهل، إحنا لسه فى البداية، فقلت له: البداية أيضاً لا بد أن تُنشر وتعلن، ويجب ألا تدخل فى مرحلة تالية قبل أن تقر علمياً خطوتك السابقة. قال العميد: نحن الأساتذة قررنا واكتشفنا، قلت له: قررتوا فين، هل فى غرفة مغلقة، أم فى مقهى، أم فى معمل؟ رد العميد: أنا عندى كل المستندات. كانت الردود وكأننا نتحدث عن مناقصة لعزومة فرح أو احتفالية طهور لا عن اكتشاف علمى سيُحدث ثورة فى تاريخ الطب. سألنى المذيع فى النهاية عن تعليق أخير فقلت إننى حزين لما وصلنا إليه، رفقاً بنا وبمصر وبعقل مصر، ارحمونا وارحموا العقول المصرية التى صارت مادة تندُّر وسخرية فى المؤتمرات الطبية نتيجة مثل هذه الافتكاسات والشعوذة العلمية! قبل هذه المداخلة بيومين كان خبر المجلس العلمى الاستشارى الذى شكله رئيس الجمهورية من قامات علمية رفيعة ومحترمة يثلج الصدور، لكن هذا الخبر وهذه المداخلة والتعليقات التى تصلنى من شباب وكبار، المفروض أنهم خريجو كليات علمية مرموقة، وهم يتحدثون ويحكون عن خرافات وأوهام وأساطير ومغالطات منطقية وسذاجة لا تمت للتفكير العلمى بأدنى صلة أو قرابة، كل هذا أصابنى بإحباط وأعادنى إلى أرض الواقع مرة أخرى. ليس بالمجلس العلمى فقط ستحل الأمور ويرتقى التفكير العلمى وينتهى التفكير الخرافى، لكن الأهم والأخطر والملحُّ هو زرع بذور الثقافة العلمية والمنهج العلمى فى التفكير، لا يمكن أن ينصلح حال العلم من قمة الهرم لكن بتغيير البنية التحتية الثقافية المصرية من كراهية العلم والشماتة فى نجاحاته وإنجازاته إلى حب العلم والتغنى بأفضاله على البشرية والحضارة، وهذا لن يحدث إلا بالعلم والتعليم.. أرجوك سيدى الرئيس، دلنى وشاور لى على برنامج علمى فى قناة مصرية!! لن تجد للأسف، فالعقل المصرى قد تم أسره واعتقاله ببرامج تغييب وتنويم مغناطيسى سواء برامج الفتاوى أو برامج الهلس، ما يباع على الفضائيات من منتج برامجى أغلبه ترامادول إعلامى أو بانجو إعلانى، صوت العلم فى الإعلام هامس ومبحوح ومخنوق وضائع فى صحراء الجهل والتجهيل، ما جدوى أن يجتمع الرئيس اليوم مع زويل ويعقوب وغنيم ويخرج غداً من يتحدث عن فص كبد صناعى أو بول إبل شرعى أو كفتة تعالج الإيدز أو حجامة تشفى السرطان أو جن يعالج العقم بممارسة الجنس الشافى من العوالم السفلية... إلى آخر هذه الهلاوس التى افترست العقل المصرى حتى صار مغيباً مريضاً ميتاً إكلينيكياً لا يجد حتى جهاز التنفس الصناعى الذى يمده بأوكسجين العلم والإبداع.