يا فضيلة الإمام الأكبر، هذا شريط سينمائى سريع ومجموعة كادرات متناثرة لحياة داروين الجادة فى طلب العلم الحقيقى، العلم الذى يغير العالم ويغير الإنسان. خبطات سريعة وقوية على باب بيت داروين من ساعى البريد الذى يحمل طرداً. تذهب الزوجة لتفتح الباب فرحانة يقتلها الفضول، هل هى باقة ورد أم شنطة ملابس أم طبق شيكولاتة؟ المفاجأة التى كان يترقبها داروين كانت نصف أوقية من براز الجراد الأفريقى كان قد طلبها من أحد الأصدقاء، وكانت سعادته بلا حدود عندما تمكن من فصل سبع نباتات من تلك العيّنة الأفريقية! تحمّل داروين اتهامات من حوله له بالجنون وبأنه يعيش فى عالم الوهم والشطحات، ولكنه كان يعرف أنه يصنع تاريخاً جديداً، وكان متأكداً من أن التقدم لا يُصنع إلا بمثل تلك الشطحات الجنونية، عندما سُئل البستانى الذى يعمل فى حديقة داروين عن صحته قال بأسى: «يالتعاسته، إنه يقف محملقاً فى زهرة صفراء بالساعات، ولعل صحته تتحسن لو أنه وجد شيئاً مفيداً أفضل ليقوم به»، ووصف ابن داروين أباه قائلاً: «كان يرى فى كل بذرة شيطاناً صغيراً يحاول أن يضلله بأن يقفز من هنا إلى هناك مختفياً فى هذه الكومة أو تلك، مما جعل عمله أشبه ما يكون بلعبة مثيرة»! حقاً مارس داروين عمله وكأنه يلعب لعبة مثيرة مشوقة، ومات داروين تاركاً عدة أسئلة محيرة كان واثقاً أنها لن تُدفن معه، ترك إجابتها لمن يأتى بعده من العلماء، مات ولم يجب عن سؤال: كيف تحافظ الكائنات الحية على صفاتها الجيدة وتراكمها من جيل إلى جيل؟ جاء «مندل» ليجيب عن هذا السؤال بأبحاثه فى علم الوراثة، أما سؤال: كيف تحدث الطفرة الوراثية التى تنتخبها الطبيعة إذا كانت فى صالح الكائن الحى؟ فقد أجاب عنه العالمان «واطسون وكريك» فى منتصف القرن العشرين عندما اكتشفا شفرة الحياة الـ«دى إن إيه»، وتوالت دلائل تأكيد نظرية داروين الواحد تلو الآخر، فالشمبانزى يتشابه كتابه الوراثى مع كتاب الإنسان فى ٩٨% من مادته! ولو فتحت موقع «جوجل» وبحثت عن صورة الأركيوبتركس، فستجد أنه الحلقة المفقودة بين الطيور والزواحف. انظر إلى ريشه وجناحيه التى تشابه الطيور ثم لاحظ أسنان المنقار وذيله العظمى والأصابع التى تنتهى بمخالب فى الجناحين والتى تشترك مع الزواحف! أما جنين الإنسان والثدييات عموماً فهو دليل عبقرى يلخص نظرية التطور، فتراه فى مرحلة بخياشيم كالأسماك، وبذيل كالزواحف. ولو لاحظت كيفية التخلص من الفضلات النيتروجينية فستجد أنها توحد الكائنات، الأسماك تتخلص من النشادر مباشرة فى الماء، أما الإنسان فيحولها إلى بولينا حتى تذوب فى الماء وتطردها الكلى! ولو نظرنا إلى دمنا سنجد أنه يعوضنا عن هجرتنا من البحار منذ ٢٠٠٠ مليون سنة، فنجد أن تركيب الدم ومعادنه من صوديوم وماغنيسيوم يعوضنا عن مياه البحار التى كنا نعيش فيها، أى أن البحر أصبح بداخلنا بعد أن كان خارجنا! عندما تهكم والد داروين على ابنه ووصفه بالبليد الذى سيجلب العار على أسرته لأنه يطارد الفئران والخنافس طيلة النهار، لم يكن يعلم أن ابنه العبقرى سيُدفن إلى جانب نيوتن، وعندما كان الأب الطبيب البدين ذو الثلاثمائة رطل يصحب ابنه ويستخدمه كعكاز فى زياراته المنزلية، لم يكن يعلم أن العالم كله سيستند على عكاز داروين ليفلت من أسْر التخلف، ويخرج من كهف الجهل والخوف والخرافة.