صديقى العزيز السيناريست الموهوب محسن الجلاد كتب رداً أمس على مجموعة مقالاتى عن نظرية التطور، وطالب فى نهاية مقاله بألا يُفسد الاختلاف للود قضية وأنا أطمئنه تماماً بأن الود والصداقة والمحبة راسخة فى القلب والوجدان ولا علاقة لها بسجال أو نقاش حتى لو كان حاداً، لكنى بداية كنت أود أن ألفت انتباه الأستاذ محسن إلى أننى كنت موجهاً خطابى إلى شيخ الأزهر وليس إلى الله جل جلاله، لذلك كان لا بد من تعديل عنوان مقاله إلى «بل صدق شيخ الأزهر وكذب داروين»! لأن كل ما ذكرته سيادتك وأيضاً كل ما ذكره شيخ الأزهر هو رأى رجال دين وتفسيراتهم ووجهات نظرهم فى النص المقدس وليس رأى الله عز وجل، وإلا ما تعددت التفسيرات والفرق والاجتهادات، ذلك لأننى ببساطة لم أقحم اسم الله فى مقالاتى ولم أتطرق إلى الدين، بل ناقشت نظرية التطور من المنظور العلمى فقط، أما إقحام واستدعاء أن رأيك أو رأى شيخ الأزهر هو رأى الله فهو استدعاء يغطى على ضعف الحجج بترهيب ومصادرة من البداية على طريقة «خليك جدع وورينا نفسك واعترض بقى على كلام ربنا»!! الذى هو فى الحقيقة ليس رأى ربنا بل هو تفسيرك ورأيك المأخوذ من رأى رجل الدين المبنى على منهج النقل والترديد والتلقين. كان لا بد من هذا التوضيح فى البداية حتى لا يزايد أحد على أحد ليقول للرأى العام: ها أنا أكثر تديناً وإيماناً وكأننا فى مزاد، فهذا الأسلوب هو الذى وأد واغتال محاولات جنينية لمفكرين إسلاميين قدامى ومعاصرين لإعادة النظر فى البديهيات والتفسيرات وتأويل الفهم القرآنى حتى لا تصدمنا حقائق العصر مثل ما فعله عبدالصبور شاهين فى كتابه «أبى آدم» أو عدنان إبراهيم فى خطبه فى فيينا التى اتفق فيها مع داروين، وقال إن الخطأ هو فى فهمنا للنص الدينى وليس فى داروين، وقال: لا مانع من أن تكون كلمة «كن فيكون» ملايين السنين كما هى تسعة أشهر فى الجنين وكما اليوم هو ألف سنة، وأحياناً خمسون ألف سنة، ما المانع فى تعديل مفاهيمنا بدلاً من الإصرار على مفاهيم متحجرة تصطدم بالواقع العلمى فتزداد الفجوة بين المسلمين وبين الحقائق العلمية والمنهج العلمى يوماً بعد يوم. أنت استدعيت الدين إلى ساحة مناقشة علمية هذه مشكلتك، وعليك أنت أن توفق وتحلها بفهم جديد وتأويل جديد وخروج عن الإطار التوراتى لقصة الخلق الذى يحدد عمر الإنسان أو بداية ظهوره أو بداية الخلق بستة آلاف عام، أو كما قال «أوشر» فى القرن السابع عشر إن لحظة الخلق بناء على حسابات الكتاب المقدس بدأت 9 صباح 23 أكتوبر 4004 قبل الميلاد! شواهد وأدلة داروين المفحمة ومعه علماء الجيولوجيا والحفريات أثبتت أن عمر الإنسان بالملايين، حوالى سبعة ملايين، وأنه لو حتى كنا نتكلم عن هوموسابينس، وهو الإنسان الواقف على قدميه، فنحن نتكلم على الأقل عن 160 ألف سنة، أما عمر الأرض فهو خمسة مليارات من السنين، فعليك يا أستاذ محسن أنت والشيوخ الأزهريين، بدلاً من الهجوم على داروين، عليكم بالجلوس للخروج من هذا المأزق ببعض المرونة، لأنه لو ظل هذا الإصرار على هذه التفسيرات ومعها تفسيرات أخرى مكتوبة فى أهم التفاسير عن الأرض التى فوق قرنين وعن آدم الذى يبلغ طوله مثل ارتفاع عمارة من خمسة طوابق... إلخ، فستكون النتيجة التى تحذر منها وتقول إن الكتابة عن داروين سببها، وهى أن يلحد الشباب الذين خرجوا من أسْر التوكيل لرجال الدين بالتفكير عنهم وبدأوا يفتحون الكتب والإنترنت ويقرأون ويطلعون وينتقدون، والشيوخ بتلك التفاسير متشبثون. لا تفعل كما فعل الشيخ بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد فى المملكة العربية السعودية الذى اعتمد على تلك التفاسير فى قضية محسومة أيضاً، وهى قضية كروية الأرض ودورانها حول الشمس، حين قال فى فتواه عام 1976 إن «القول بأن الشمس ثابتة وأن الأرض دائرة هو قول شنيع ومنكر، ومن قال بدوران الأرض وعدم جريان الشمس فقد كفر وضل ويجب أن يُستتاب وإلا قُتل كافراً ومرتداً ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين»، وقد استند بن باز للدلالة على جريان الشمس والقمر إلى بعض الآيات القرآنية، كما استندت أنت فى هجومك على داروين مثل قوله تعالى «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمَّى»، «وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ»، «فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ». وقال بن باز فى تفسيره إن الجرى فى لغة العرب هو السير والانتقال من مكان إلى مكان، أما أدلة ثبوت الأرض فقد جمعها بن باز فى الآيات القرآنية مثل «جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا»، «جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا»، «الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا»، «وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ» ومن تفسيراته أن كون الأرض فراشاً مشروط بكونها ساكنة لأنها لو كانت متحركة لما كانت فراشاً على الإطلاق. وحتى لا نقع فى كارثة وفخ مثل هذه التفاسير والفتاوى الـ«بن بازية» والتى يقول هو عنها أيضاً ويرهبنا بأنها كلام ربنا والواقع أنها تفسيره هو، والتى جعلتنا أضحوكة وسط العالم، أليس أحرى بك وبرجال الدين الأفاضل أن تقدموا رؤية جديدة متطورة بدلاً من تقديس تفاسير بشر لهم كل الاحترام لكنهم فى النهاية بشر سواء كانوا مفسرين أو فقهاء لهم كل احترام المجتهدين بمقاييس زمانهم ومعلومات عصرهم لكن ليس لهم تقديس الأنبياء المعصومين. برغم أننى فى سلسلة مقالاتى قد شرحت نظرية التطور وسر قوتها وأيضاً سر عبقرية داروين التى تسخر منها، إلا أننى سأرد على أهم النقاط التى أثرتها فى مقالك، بالنسبة لقوة نظرية داروين التى جعلتها ترتفع إلى مستوى الحقيقة فهذا مستمد من قوة أدلتها التى باتت بالملايين، داروين نفسه عندما كتب شجرة العائلة التطورية كتب بجانبها I think، أى أنا أعتقد، وهذه هى بديهية العلم أنه نسبى وأنه قابل للتطوير والإضافة والحذف ولا ينتفض المجتمع العلمى غضباً كما نفعل نحن حين ينتقد أحد حديثاً للبخارى مثلاً أو رأياً لابن حنبل ولا يخرجون فى مظاهرات إذا ظهرت نظرية لأينشتين تضيف إلى نيوتن أو إذا أضاف مندل ووضح كيف تنتقل الصفات الوراثية الأكثر ملاءمة للبيئة والتى لم يكن يعرفها داروين وأثارت حيرته ثم جاء واطسون وكريك بثورة الـ«دى إن إيه» ليفككا ويحلا اللغز أكثر.. أرجوك يا أستاذ محسن، لكى يكون النقاش «علمى - علمى» وليس «علمى - فقهى»، أن تأتى بدليل من الحفريات يثبت أن الزواحف فى طبقة جيولوجية أعلى من الإنسان!! لن تجد إلا هذا الترتيب الهرمى الذى أخبرنا به داروين، وهذا سر عبقريته التى تسخر حضرتك منها! وحضرتك تقول: «لو كان التطور صحيحاً لشاهدنا كثيراً من الحيوانات والناس تأتى إلى الوجود عن طريق التطور لا عن طريق التناسل فقط»!! اعذرنى يا أستاذ محسن، ففهمى المتواضع لم يستطع استيعاب ما تقول، وصدقنى لو أجهدت نفسك وقرأت كلمة من كتاب داروين لعرفت أن هذه النظرية عبارة عن تراكم صفات ملائمة تنتقل عبر التناسل والتكاثر! فما علاقة ما تقوله بنظرية التطور، أما ما تقوله حضرتك عن الحساء العضوى والظروف المناخية التى صنعت أول خلية فهذه نظرية أخرى تماماً ظهرت بعد وفاة داروين بحوالى 40 سنة على يد العالمين أوبارين وهالدين، فأرجوك يا صديقى العزيز أن تراجع معلومات الإنترنت وتلجأ إلى مراجع العلم الأصلية نفسها، وكذلك ما قلته عن أن نظرية التطور تصنف الناس إلى يهود وزنوج وجنس خارق... إلى آخر هذا الكلام، أود أن أهمس فى أذنك بمفاجأة وهى أن داروين تجنب الكتابة عن تطور البشر بالذات وتركها لمن بعده ليضيف إليها، ومفاجأة أخرى أن هذه التصنيفات هى تصنيفات هتلر والنازية، وأعتقد أنك تعلم جيداً أن هتلر ليس من عائلة داروين ولم يُضبط يوماً متلبساً بقراءة أفكاره ولو قرأها ما ذنب داروين؟؟! أما ما أخبرك به أصدقاؤك من الأطباء الجهابذة عن أن المضادات الحيوية ليست لها علاقة بنظرية التطور فللأسف الشديد هم لم يفهموا المعنى المقصود وأرجوك اسألهم لعلهم يفيقون: هل هم يصفون البنسلين لكل أنواع البكتيريا حتى التى كانت تستجيب له من خمسين سنة، وكيف يفسرون تغير البكتيريا ومقاومتها ومقاومة فيروس الإنفلونزا كذلك للتطعيمات التى تختلف كل عام، إلا أن البكتيريا والفيروس تطور نفسها وتؤكد مصداقية داروين؟ اسألهم كيف يفسرون نوع الهيموجلوبين المقاوم للملاريا الذى تشكل عبر طفرات التطور لدى دول الأفارقة التى تحتلها الملاريا؟ اسألهم كيف وجدوا أن هناك الآن فى كينيا وجاراتها من بائعات الهوى من أصبح لديهن مناعة ضد الإيدز؟ اسألهم كيف فى عصر الفحم فى إنجلترا عاشت فقط الفراشات السوداء المتوائمة مع محيطها وبيئتها آنذاك؟؟.. كيف يمكن تفسير كل هذا إلا بنظرية التطور، وأخيراً اسأل نفسك وتمعّن فى جسدك واطرح علامة استفهام عن جدوى ونفع العصعص الذى كان ذيلاً والجفن الثالث الضامر فى عيوننا والذى يوجد أصله فى القطط، والزائدة الدودية، وضرس العقل التى كانت ضرورية أثناء تناولنا لأوراق السيليلوز، وعن العضلة الأخمصية plantaris التى فى أقدامنا والتى كانت تُستعمل للالتفاف حول الأغصان، تساءل: لماذا لا تصاب الحيوانات التى تمشى على أربع بالانزلاق الغضروفى مثلنا عندما وقفنا على قدمين... إلخ، لكى تنقذ إيمانك وتدينك لا بد أن تؤمن بأن تلك تطورات وإلا ستقول مثل الملحدين إنها عيوب تصميم أو عدم دقة صناعة حاشا لله المنزه والذى نصرُّ كل لحظة على إقحام دين الهداية الذى أرسله رحمة للعالمين فى معارك جانبية تشوه هذا الدين وتصمه بالتخلف عن ركب الحضارة. أرجوك أستاذ محسن، اقرأ داروين، صدقنى ستستمتع ولكن اخلع قبل القراءة نظارات انتهت صلاحيتها، لا تخشَ على إيمانك فأنت حر فى قناعاتك ولكن أرجوك اخشَ وخف على مجتمعك ووطنك من هجران العقل ونفى العلم.