كلما فتحنا جريدة أو شاهدنا نشرة أخبار وجدنا تفجيراً لا تفكيراً، عن هذه الثقافة كتب د. كميل صديق من الإسكندرية تلك الرسالة: التفكير يعنى تفعيل العقل البشرى الذى منحه الخالق لنا فى تحقيق كل ما يسعد البشرية وكل ما من شأنه أن يجعل مشاق الحياة أكثر احتمالاً.. وهو بالضرورة يستلزم بسط سيطرة العقل على الطبيعة لتحقيق أقصى نفع للبشرية، وحتى فى التفكير العلمى يستمر العقل فى الاجتهاد دون توقف ولا يقف عند المطلق وهو ما يسميه علماء الاجتماع «التراكمية»، وعلى سبيل المثال ظلت فيزياء «نيوتن» ما يقرب من قرنين من الزمان هى الحقيقة المطلقة إلى أن جاءت فيزياء «أينشتين» لتثبت لنا أن كل ما يعد حقيقة مطلقة ليس فى الواقع سوى حقيقة نسبية، هذه لمحة سريعة عن التفكير، أما عن التفجير الذى رفع البعض شعاراً له: أنا «أُفجّر».. إذن أنا موجود!! (بوضع ضمة على حرف الألف وشدة على الجيم) نتحدث ونقول: إنك لو استطعت تشكيل عقول البسطاء من الناس وصبها فى قالب واحد لخدمة فكر معين وأوصلتهم إلى حالة ذهنية ونفسية تكون على استعداد تام لتلقى كل ما تأتمر به وسيطرت على إرادتهم، مثل تلك العقول تستطيع بذلك -ودون أى مجهود يُبذل- أن تجعلها ترتكب من الآثام والخطايا كل ما يدور فى ذهن من سيطر على إرادتهم. وهنا نصل إلى تلك المعادلة اللامعقولة والمجنونة التى توطنت الآن فى منطقتنا، وأقصد بذلك ثقافة القتل والتفجير وإراقة الدماء التى أضحت تشكل الآن سلوكاً أصيلاً.. ولم يعد دم الأبرياء يحرك مشاعرنا وتبلَّد الذهن معها ولم نعد نتوقف عندها كثيراً وأصبحت أخبارها ركناً ثابتاً تبدأ به الفضائيات نشراتها الإخبارية. إن إراقة الدماء أيها السادة -تفجيراً أو قتلاً- باتت عند البعض من الإنجازات التى تحسب لصاحبها، إن ثقافة التفجير والقتل لا تستهدف طائفة أو عقيدة دون الأخرى.. ولكن الكل المختلف مستباح ومُهدر دمه.. ومما يؤكد ذلك أن عدد القتلى من إخواننا المسلمين الأبرياء يتجاوز وبمراحل من ينتمون إلى عقيدة أخرى، وهم يعانون أيضاً بقدر ما يعانى الجميع، وفى هذا السياق اسمحوا لى أيها السادة أن نتوقف عند مشهد الذبح الذى تنفرد به منطقتنا كأداة للتصفية الجسدية، والذى من كثرة حدوثه لا أستبعد تفكير أحدهم فى إقامة «مجزر آدمى» لتسهيل المهمة!!! وعودة لمثال صارخ نشرته «الأهرام» بتاريخ 20/11/2007 ونصه: «صبى عمره عشر سنوات يتسلل إلى اجتماع لرؤساء العشائر فى محافظة ديالى بالعراق، يلف على وسطه حزاماً ناسفاً ويحتضن صاحب المنزل ويفجّر نفسه مع مضيفه، ويتحول جسده إلى أشلاء ويقتل الانفجار خمسة زعماء عشائر آخرين هم ضحايا غدر الصبى الذى رضع من صغره القتل!!»، ولنا فى هذا أن نتساءل: كيف استطاع إنسان أن يسيطر على عقل إنسان آخر ويقنعه ليس بقتل الآخرين فقط، بل بانتحاره أيضاً ووضع حد لحياته؟.. صبى فى العاشرة يتم انتزاعه من حضن أمه ويتم تسليمه حزاماً ناسفاً لينتحر ويضع حداً لطفولته البريئة!!!! إلى هؤلاء الذين اعتنقوا ثقافة التفجير ومُعرضين تماماً عن ثقافة التفكير، أذكركم بعبارة جاءت على لسان شاعرنا المبدع نزار قبانى فى واحدة من قصائده الرائعة حينما قال: «جربوا أن تفتحوا كتاب ... جربوا أن تقرأوا كتاب».