اندهشت وتعجبت وحزنت كثيراً عندما سألنى خريج كلية طب متفوق عن د.أنور المفتى قائلاً: «من هو د.أنور المفتى الذى حدثت أمام قريته حادثة طلبة البحيرة؟.. أنا أول مرة أسمع عن الراجل ده!!»، فهذا الطبيب والأستاذ معلم أجيال ورائد عظيم ونموذج مثالى لكيف يكون الطبيب مخلصاً ومطبقاً لما تعلمه لصالح بلده، لم يدرس الطب لمجرد الطب بدون أن تكون عيناه على مصلحة بلده ومصلحة الغلابة، وأن يجند أبحاثه ودراساته فى خدمة الفقراء لا فى سبيل الترقى الوظيفى والشو الاجتماعى وطنطنة مؤتمرات الخارج فقط، أنور المفتى، رائد علم الأمراض الباطنة، الذى كانت بداياته فى قسم الكيمياء الحيوية، التى هى أساس علم الطب وشفرته السرية، والتى طالما أهملناها وما زلنا نهملها، أنور المفتى الذى اختزلناه للأسف كعادتنا الإعلامية السخيفة فى الركن السياسى لدرجة أن كل معلوماتنا عنه أنه طبيب عبدالناصر، وبالطبع لا بد أن نلوك بعدها الحكاية السخيفة عن اغتيال عبدالناصر له فى قصة أشبه بالأفلام الهندية الرديئة. لكى نفهم من هو أنور المفتى وما هى شخصيته التى تركت بصمة على كل من تعلم على يديه لا بد أن نعرف أن هذه القرية التى حدثت أمامها كارثة تفحم طلبة البحيرة ليست هى القرية التى ولد فيها د.أنور المفتى، ابن القاهرة، بل إن هذا الاسم أطلق عليها عرفاناً بجميل هذا الطبيب القديس الذى عاش فى هذه القرية وتفاعل مع أبنائها الفلاحين ولم يتعامل معهم كسائح يستمتع بالفرجة على كائنات فى سبيلها للانقراض، اسم القرية القديم «سحالى»، ذهب إليها د.المفتى ليجرى أبحاثه على الطبيعة من منطلق الحب والتعاطف، وليس من منطلق التعالى من طبيب يدخن البايب ويرطن بمصطلحاته اللاتينية المكلكعة على فلاح يخبز بالجلة ويطبخ فى الكانون، تفاعل مع من يتقيأ دماً من دوالى المرىء، ويبتر قدمه من مضاعفات السكر، وتساءل: هل يستطيع هؤلاء الغلابة أن يبنوا وطناً وهذه الأمراض تفتك بهم؟ لاحظ بعينيه الرادارية اللاقطة الذكية العلاقة بين مبيد «الدبتركس»، الذى يستخدمه فلاح قرية سحالى، وبين مقاومة البلهارسيا، وطبق هذه الملاحظة ونجحت، كان دائماً يفكر كيف ينقذ الفلاح المصرى الغلبان الذى لا تتوافر له مستشفى إلا على بعد مئات الكيلومترات، كيف وبأشياء رخيصة وفى وقت سريع ينقذ بنى آدم من الموت فى قرية عديمة الإمكانيات تحت خط الفقر بفكر خارج الصندوق، استخدم الجلسرين فى علاج الغيبوبة الكبدية، استخدم طلع النخل قبل اختراع موانع الحمل كوسيلة لتنظيم النسل، أجرى أبحاثاً على ديناميكية دهنيات الدم.. إلى آخر تلك الأبحاث التى كان منطلقها الوحيد الإنسان المصرى الفقير وكيف نعالجه، لا نستخدمه، كيف نشفيه، لا ننفيه. أرجو من الأطباء ومن طلبة كلية الطب جميعاً أن يدرسوا سيرة هذا الرائد العظيم بعيداً عن هلاوس السياسة وكتبها الصفراء، أرجو من تلامذته الذين ما زالوا على قيد الحياة أن يكتبوا لنا عن هذا العالم الجليل حتى يتعلم المصريون أن أغلى كنز يمتلكونه هو البشر قبل تفحمهم فى سيارات الموت. أرى د.أنور المفتى الآن يطالب من العالم الآخر أن يزيلوا اسمه من على لافتة القرية التى احترق أمامها الطلبة فهو قد أفنى حياته من أجل هؤلاء الغلابة الذين كانت تلك اللافتة شاهداً عليهم وشاهداً على قبرهم.