البهجة فى مصر منظورة، والفرح فى المحروسة محسود، هكذا يقول العامة فى الشارع المصرى!! ما بال القدر يضن علينا بالبهجة ويبخل علينا بالابتسامة، يحمل لنا كل صباح خبراً كئيباً؟! استيقظت أمس على خبر مرض أحمد حلمى بالسرطان بعد أن نهشه المتطفلون لمدة أسابيع فى نميمة الضباع الإعلامية حول سفره لأمريكا واتهامه بالسفر للحصول على الجنسية للمولود الجديد. سينتصر أحمد حلمى ويروّض الوحش وسنستعيد معه البسمة والإرادة، دعوت له بالشفاء وشاهدت فيلمه الجميل «عسل إسود» واستعدت ما كتبته وقتها، لعله يكون قرص دواء مسكّن يحتاجه الآن. مصرى السيد العربى شاب عائد من أمريكا بحلم الوطن وشوق الأهل والخلان وذكريات الشوارع والبيوت، غاب عشرين سنة فى بلاد العم سام، عاش مواطناً أمريكياً بدرجة خواجة ولكن ما زال يسكنه هاجس مصر المحروسة الذى ينطبع كالوشم، ولكن هل يكفى هذا الوشم لكى يتغاضى مصرى السيد العربى عن خطايا الوطن ويتفاعل مع مصائبه وعيوبه، هل ستغطى ألوان الوشم المضمخة بعبق الزمن الجميل على عشوائية الحياة المصرية واضطراب أحوالها، وتجعله يستعير مرآة لا ترى إلا الصح والجميل والتمام، هل سيجعله يحاول أن يخون مهنة المصور الفوتوغرافى التى علّمته الرصد بعين الكاميرا التى لا تكذب ولا تُجمّل، فيلعب بالفوتوشوب فى ملامح بلده وناسه فيجعلهم أقل دمامة وقبحاً؟! هذا هو السؤال الذى يطرحه فيلم «عسل إسود» بقسوة الكوميديا السوداء وبراعة إخراج خالد مرعى وتجسيد أحمد حلمى وصياغة خالد دياب. يحاول النجم أحمد حلمى فى أفلامه الأخيرة أن يكون مختلفاً، أن يسير فى طرق جديدة وغير ممهدة، أن يسكن فى ديار فنية غير سابقة التجهيز، يجهد ذهنه فى اختيار الجديد ولا يقنع بالسهل المضمون، منذ نزول التيترات ولحظات الفيلم الأولى فى الطائرة المتجهة من أمريكا إلى مصر، تحس بأنك أمام فيلم جاد لا يستخف بعقلك، حوار ذكى سريع ولكنه غير متسرع، لقطات تقتحم ولا تنتهك، مونتاج ليس مجرد قص ولزق ولكنه إعادة خلق فنى يذكرنا دوماً بأن مخرج الفيلم فى الأصل مونتير بارع. رحلة أحمد حلمى مع السائق الفهلوى لطفى لبيب أكثر مناطق الفيلم سخونة وكوميديا، مشاهد استخدام مفتاح الجنة، الباسبور الأمريكى، الذى يحل جميع الشفرات السرية والمعضلات المصراوية، يركع الجميع أمامه بداية من المسئولين والموظفين حتى كلاب الحراسة المتوحشة، الأسرة المصرية البسيطة التى احتضنت مصرى السيد العربى ومنحته الدفء كانت مرسومة بمهارة، الخيط الوحيد الذى افتقدته وكان لا بد للسيناريو أن يشير إليه هو جذور مصرى وعائلته وظروفه فى أمريكا، حتى ولو بلقطات متتابعة سريعة، لأننا لن نفهم دوافع بطل الفيلم وتصرفاته إلا بمد الخط حتى نهايته وعدم بتر هذا البطل عن عائلته، وإغفال سؤال ما الذى دفعه لزيارة مصر فجأة، وما الذى منعه كل هذه السنوات؟ أهى عيشة وخلاص! هى النشيد القومى للمصريين، هل نحن نحيا أم نعيش؟ الفرق كبير بين الحياة والعيشة، فى الحياة أنت ترسم دورك بنفسك، تكتبه وتخرجه وتصوره وترسم الديكور والإضاءة، أما فى العيشة فأنت تمثل دوراً مرسوماً لك، تدور فى ترس العجلة ولا مفر من أن تظل تدور وتدور باحثاً عن الفتات الذى يجعلك قادراً على أن تظل دائراً مع الترس إلى ما لا نهاية، جاء أحمد حلمى وعرى العصب وكشف القيح والصديد، غلّف منتجه السينمائى بسيلوفان كوميدى، وجعلنا نردد كلمات طقسنا الروتينى المعتاد بعد كل ضحكة.. «اللهم اجعله خير».