مارس شهر الألوان والحيوية والزهور وانتظار دقات الربيع على باب الحياة، صار مرتبطاً فى وجداننا بأنه شهر الوجع والألم والرحيل بلا عودة، شهر سقوط أوراق زهر الإبداع وارتداء ثياب الحداد على اثنين من مبدعينا رحلا فى ذروة وعز التألق والنجومية والعطاء.. عبدالحليم حافظ وأحمد زكى، لم يجمعهما يوم الرحيل فقط، لكن جمعهما الحلم واليتم والفقر، نقطة الانطلاق كانت الشرقية ومحطة الموت كانت سرير المستشفى، «حليم» ابن غيطان وحقول قرية الحلوات وأحمد زكى ابن دروب وشوارع الزقازيق، الأول سكنته البلهارسيا والثانى عششت فى خلاياه الأنيميا، جمعهما الحب المجهض والمرض العضال وبرودة الوحدة، رغم اتساع السكن وفخامة المسكن، إلا أن كلاً منهما عاش أسير التيه، شقة «حليم» كانت بجوار شقة أسرته وشقيقته الكبرى وأمه التى لم تلده، كان يريد الاستقلال، لكنه استقلال الخائف المذعور من أن يموت وحيداً منسياً فى نوبة قىء دموى لا يسعفه منها قريب، كانت شقته هى السكن ومكان البروفات وغرفة العناية المركزة وجناح تعليق المحاليل، أحمد زكى عندما نجح فى اقتناء شقة فخمة وضع على بابها رقم غرفته فى الفندق، لم يستطع هو أيضاً أن يستقل فى السكن، لأنه لم يحس أبداً بالسكينة، كان دائم السكن فى حجرات وغرف شخصياته التمثيلية القلقة، الاثنان اشتركا فى عشق الليل، كانا من الكائنات الليلية، «حليم» كان يخاف أن يودّع الدنيا فى جنح الظلام ولامبالاة القمر، رغم أنه مداحه، وأحمد زكى كان الليل رفيق صعلكته وحارس جنونه الفنى وتمرده الإبداعى البركانى الجارف، العندليب الأسمر والنمر الأسمر لا يمكن أن تخطئ عين فى أصلهما المصرى، ليس فقط لمجرد لون البشرة، لكن للون الروح ونكهة اللماحية والجدعنة وجينات الذكاء الفطرى وعزة النفس والكرامة المستقرة فى وجدان كل منهما، حاول «حليم» العلاج فى لندن، مدينة الضباب وفشل، حاول أحمد زكى العلاج فى باريس مدينة النور وفشل، كلاهما قدّم فنه قرباناً للحب وظل طيلة حياته عطشان له محروماً من لمسته، «حليم وزكى» طالتهما شائعات الزواج السرى، جزء من هذه الشائعات سببه أن جمهورهما لم يتخيل أن هذين العاشقين يعيشان دون ارتباط ودون امرأة، ارتبط «حليم وأحمد» بالعبقرى صلاح جاهين. أحمد زكى حاول الانتحار حين علم بوفاة «جاهين»، «حليم» عاش حلم الوطن وانكساره على ضفاف بحور شعر جاهين، قبل أن يرحل أحمد زكى جسّد شخصية «حليم»، كان يخطو على بساط الوداع ويبتعد رويداً رويداً عنا، وكان مصراً على إكمال دوره فى الفيلم ونزول كلمة النهاية، بانتهاء حياته وبلقطة رحيل «حليم» أيضاً، وكأنه يقول الفن هو بصمة الخلود، سنودّعكم جسداً ونظل معكم روحاً وفناً وإبداعاً.