الحضارات لا تصنعها المناظرات، التقدم الفكرى الحقيقى المؤثر لا يولد من رحم المناظرة، بل من رحم الدراسة التحليلية النقدية المتكاملة المتماسكة المخلخلة للبنيان التقليدى والمزلزلة للبديهيات التى تُستخدم لتزييف الوعى وتضليل العقل، «جان جاك روسو» و«كانت» و«ديكارت»... إلخ عكفوا على دراسة وتحليل وإجابة سؤال: ما الذى جعل مجتمعاتهم تتخلف فكرياً وتمنح للكهنوت تلك المساحات والسيطرة؟ «جاليليو» لم يناظر المحكمة، ولكنه ترك تراثاً علمياً للأجيال المقبلة وتجرأ وتجاسر على طرح أسئلة صادمة لمجتمعه جعلت هذا المجتمع يفكر ويستيقظ ولكن بعد موته بسنوات طويلة، لكنه وضع البذرة ومضى، بمنطق العصور الوسطى انتصرت الكنيسة آنذاك فى مناظرتها لو صحت تسميتها مناظرة، لكن بعد مرور مئات السنين اعتذرت الكنيسة وانتصر العلم، لم تكن مناظرة بالمعنى المفهوم بل كانت محاكمة جاهزة الحكم، محاكمة قامعة مصادرة للتفكير منتقمة من التجديد، لذلك لا تنشغلوا بالمناظرات التى لن تجدى، فقط طالبوا كل مفكر مجدد بأن يطرح أسئلة أكثر وأخطر، طالبوه بأن يحفر أعمق حتى يصل إلى بئر التغيير فى صحراء الهجير، طالبوه بأن يبدد ضباب الجهل بكشاف أوضح، عليه فقط أن يبذر بذور المعرفة والعقل ويقلّب تربة الفكر والتجديد ولا ينتظر الثمار الآن، فليتخلَّ كل مفكر ومثقف عن أنانيته ويقول كلمته بصدق ولا يتعجل جنى ثمارها أو سماع صداها، حتماً سيحدث التغيير، تلك سمة الحياة وقانون التاريخ، المناظرة فى نسختها المصرية والعربية مبارزة انتقامية ثأرية، المناظرة فى مجتمعنا ذى القناعات المسبقة والأحكام الجاهزة والبديهيات الراسخة عبث، ومن ينتظر منها تراكمات للتغيير الثورى الفكرى سيظل فى انتظار «جودو» للأبد بلا جدوى، جربت المناظرات التليفزيونية عدة مرات، وذات مرة قال لى الحلاق بعد إحداها: «تأييدك للنقاب يا دكتور كان هايل»!! تعجبت واندهشت وسألته: «هل شاهدت المناظرة فعلاً؟»، رد الحلاق: «من أولها لآخرها»، لم أكن أؤيد النقاب ولم أذكر كلمة واحدة تشجع عليه ولكن لأن زوجة الحلاق منقبة فهو مقتنع بأن أى زبون علاقته طيبة به هو حتماً مؤيد للنقاب!! ولأننا شعب يفكر بالتمنى فما يحدث عند مشاهدة أى مناظرة هو بالضبط ما حدث مع صديقى الحلاق، سيكولوجياً يحذف اللاوعى الشخص المعارض لمنطقك من منتصف الشاشة ويحدث عمى وطرش مؤقت فيسمع ويشاهد المتفرج ما يود سماعه ومشاهدته فقط، ويظل متربصاً ومتحفزاً للآخر ويفسر أى كلمة من كلماته على هواه، وتكون النتيجة أن يظل كل مشاهد متمترساً فى خندقه، متقوقعاً فى شرنقته، بل يخرج محتقناً أكثر ومشوشاً ومشوهاً أكثر!! كنت دائماً أنصح المفكر جمال البنا، رحمه الله، بألا يدخل فى مناظرات تليفزيونية يخطط لها أشرار الإعلام الذين يريدون مجرد اصطياد مانشيتات ساخنة للتشويش على مشروعه الفكرى، كانوا يستغلون أدبه الجم فيختارون خصوماً طويلى اللسان يمارسون كل ما يحفظونه من قلة أدب وسفالة على الرجل الشيخ خفيض الصوت، قلت له: اعرض مشروعك فى برنامج وبهدوء وبتفصيل، وحتماً سيحدث التراكم والتأثير المطلوب ومن يريد أن يقتنع فليقتنع ومن لا يريد فهو حر، قلت له: العمر لم يعد فيه الكثير لنضيعه فى مهاترات المناظرات التى تستهلك الوقت والأعصاب بلا طائل، كانت الغلوشة تنجح فى إخفاء مشروعه الفكرى الكبير الخطير المهم فى نقد التراث لتبرز المانشيتات الساخنة والقضايا التافهة المقتطعة من سياقها مثل القبلات والسجاير فى رمضان... إلى آخر تلك الترهات التى اختزلوا الرجل فيها وتركوا كل ما كتبه عن المجددين وعن التفاسير والأحاديث، هذا هو نفس ما يحدث مع إسلام بحيرى الذى يستغلون حماسه وعصبيته وسرعة استفزازه ليحاكموا أسلوبه ويتصيدوا من ارتجالاته ليبعدوا الحديث عن المهم وهو نقد التراث، هم مثل من يترك الوجبة منتهية الصلاحية دون مناقشة أو تفنيد أو حساب ليناقشوا الطبق الذى قُدمت فيه تلك الوجبة، يناقشون لون الطبق وخرابيشه وحافته المكسورة... إلخ ويتركون الطعام المسموم الراكد الذى مر على مفتشى الصحة الثقافية الفكرية من الفقهاء الأزهريين دون أى تنقيح أو حتى ملاحظة ونصيحة، لذلك أنا لا أراهن على أى مناظرة فكرية، وأرجو من كل مفكر يريد التغيير أن يطل من نافذته لتدخل أشعة الشمس، ومن يريد أن يستمتع بدفئها فليستمتع ومن يريد أن يلجأ إلى كهف طمأنينته الزائفة فليلجأ حتى تنهار جدرانه فوق رأسه الفارغ.