العلوم نوعان لا ثالث لهما: علوم تجريبية، وعلوم إنسانية أو ما يسمونه فى أدبيات العلم علوماً صلبة وعلوماً رخوة، وعلوم الدين هى علوم تنتمى إلى مجال العلوم الإنسانية أو العلوم الرخوة، ومن يحاول أن يطلق عليها علوماً ربانية لكى يرهب ويحتكر ويمنع النقد والنقاش هو إنسان يحاول أن يخدعنا، فكل ما هو مكتوب فى الفقه والتفسير وعلم الرجال والجرح والتعديل هو جهد إنسانى بشرى ووجهات نظر حتى ولو كان موضوع البحث هو الدين، ومن يدع أنه قد احتكر وحده حصرياً توكيل التفسير الربانى من الله فليظهره لنا!!، ما ينطبق على علم التاريخ وعلى علم النفس والاجتماع ينطبق أيضاً على تلك العلوم الدينية، ولكن للأسف حتى تلك العلوم الإنسانية السابق ذكرها تطورت أدواتها ومناهج بحثها وظلت العلوم الدينية مستعصية على التطوير محلك سر، نتيجة هالة القداسة التى خلقت مزيداً من الحواجز والتابوهات أمام أى باحث يريد تطبيق مناهج البحث الحديثة على تلك العلوم... إلخ، العلوم الإنسانية عموماً تطمح إلى أن تكون فى دقة وانضباط العلوم التجريبية. يتمنى علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد... إلخ، الحصول على أيزو المعمل ودقته، والوصول إلى تجريد وصرامة العلم التجريبى ومعادلاته سواء كان فيزياء أو كيمياء أو طباً... إلخ، ولو سألنا حتى فى مجال العلوم التجريبية عن أى تلك العلوم أكثر تقدماً لوجدناه الفيزياء التى تقدمت أكثر من الطب وقفزت قفزات أسرع منه بكثير، بل كانت الفيزياء هى القاطرة التى جرّت الطب إلى الأمام لأنها أكثر دقة وصرامة وتجريداً وتعميماً. العلوم الإنسانية عموماً مازال ينقصها الكثير حتى تصل إلى مرتبة العلوم التجريبية، والبعض يقول إنها لن تصل إلى تلك الدقة أبداً، برغم كل محاولات تطبيق المناهج العلمية والإحصاء والاستبيان والمعادلات والمنحنيات... إلخ، مازالت تعانى من أمراض التحيز وعدم القدرة على التعميم والخروج بنظريات تصلح للجميع، لأنها تتعامل مع الإنسان والمجتمع والبشر والنفس الإنسانية وهى أشياء تقاوم القياس المنضبط والقوالب الثابتة، لذلك تستطيع أن تقول وبكل دقة إن درجة غليان الماء فى مصر وفى أمريكا وأستراليا هى 100 درجة مئوية، لكن لا تستطيع أن تقول إن درجة غليان الإنسان ووصوله إلى درجة الثورة أو القتل أو التذمر أو الاكتئاب واحدة فى تلك الدول!! تحاول تلك العلوم جاهدة خاصة فى الغرب أن تضع إطاراً علمياً منضبطاً، ويساعدها فى ذلك جسارة الباحثين المتخصصين، وأيضاً قدرة تلك الشعوب بأفرادها العاديين غير المتخصصين على التفكير النقدى الحر، لذلك فى العلوم الإنسانية يوجد هامش كبير متاح لغير المتخصصين، والمدهش أنه أحياناً تأتى ثورة تلك العلوم ممن نسميهم غير المتخصصين، وسأضرب لكم مثالاً بعلم التاريخ ومن مصر، أنا شخصياً ومعظم جيلى قرأنا عن الثورة العرابية، وكان مرجعنا هو كتاب الأستاذ صلاح عيسى، الذى لم يحصل على درجة الدكتوراة فى التاريخ ولم يدخل أصلاً كلية الآداب، وكان مرجعنا عن فترة الملك فاروق ما كتبه أحمد بهاء الدين الحقوقى وغيره من الصحفيين غير المتخرجين من كلية الآداب... إلخ، هذا فرق أساسى بين نوعين من العلوم حتى لا يخرج علينا شيخ بالتصريح الأكلاشيه «زى ما الطبيب متخصص فى الكشف عن المرض إحنا متخصصين نعرفك دينك ونفكر بدلاً منك ونفتى لك»!!، عندما حاول نصر أبوزيد غير الأزهرى أن يطبق مناهج البحث العلمى على علوم القرآن قامت الدنيا ولم تقعد وتم تكفيره بل وصل الأمر إلى تفريقه عن زوجته، وكذلك عندما حاول جمال البنا، الذى لم يتخرج من الأزهر، أن يناقش ما يطلق عليه علوم الحديث، تم تجريسه وتكفيره والسخرية منه واغتيال مشروعه الفكرى والتشويش عليه بالتربص والاصطياد لقضايا فرعية تافهة يجره إليها أشرار الإعلام وهواة الفرقعات الفضائية!!، وحتى عندما خرج د. أحمد صبحى منصور الأزهرى، الحاصل على الدكتوراة، عن السياق وناقش الأحاديث تم تكفيره ونفيه خارج الوطن. إذن الحكاية ليست حكاية أزهر، لكنها حكاية اتجاه بعينه داخل الأزهر يريد فرض وجهة نظره والحفاظ على مكاسبه. وصلتنى تعليقات كثيرة سأحاول الرد عليها، فالموضوع يستحق دراسة أكبر وتغطية أوسع، وسأعدكم بأن أعود إليه على فترات كى أناقشه من زوايا أخرى.