الشهرة والنجومية هى التى سعت هرولة إلى الخال وليس العكس، كثيرون من الممكن أن يكونوا شعراء، لكن القليل النادر هو الذى يحتل عرش الشاعر النجم الذى ينافس نجوم السينما، ويتمنى أى شخص أن يلتقط صورة سيلفى معه رحل الضلع الثالث من مثلث الإبداع الجنوبى الذى حطّ رحاله فى القاهرة وصبغها بصبغة ولهجة وتمرد وخشونة وصلابة الصعيد، فصار ليل القاهرة بعد هبوب عاصفة هذا الثلاثى له مذاق مختلف، بل له قمر مختلف، رحل الأبنودى بعلة الرئة، وقبله أمل دنقل بسرطان الخصية، وقبلهما يحيى الطاهر عبدالله فى حادث عبثى على طريق الواحات، ثلاثى من جنوب الجنوب، تمردوا على أبجديات صعود السلم الاجتماعى المحفوظة، وأهمها الحصول على شهادة الجامعة، وضعوا فى صندوق بريد المحروسة رسالة تلغرافية: «سنفرض أنفسنا ونخربش على جدران تلك المدينة بأظافرنا المدببة الخشنة القوية». رغم موهبة ذلك الثلاثى الجامحة فى الشعر الفصيح والعامى والقصة القصيرة، فإن الأبنودى ظل ألمعهم وأكثرهم حضوراً وجاذبية وشهرة من أول لحظة، وللأسف أثار هذا اللمعان وهذه الشهرة غيرة وغضب البعض الذى حاول الوقيعة بينه وبين أمل ويحيى، أحياناً كانوا ينجحون فى دق الأسافين، اعتماداً على الدم الحامى الصعيدى الذى يسكن شرايين أمل ويحيى ومزاجهما المتقلب، وغالباً ما كانوا يفشلون، لأن التراث والتاريخ المشترك وحجم الموهبة الضخم دائماً ما كان يضمد الجراح ويلملم الخلافات، لكن ظلت الغيرة من الأبنودى بعد رحيلهما ساكنة قلوب وعقول الكثير من أنصاف المثقفين الذين دبّجوا معلقات الشتيمة والسباب للأبنودى واتهامه بأن شهرته ليست نتاج موهبته، بل نتاج اقترابه من السلطة، وهذا قدر كل الموهوبين الكبار والمبدعين المجددين، فبقدر ضخامة وجموح الموهبة بقدر الحقد والضغينة ضدها، وبقدر تسامح المجتمعات والأوطان مع شغب وشقاوة وهفوات ولحظات ضعف تلك العبقريات بقدر ما تتقدم وتتحضر وتنمو عقلياً ووجدانياً، الأبنودى فرض نفسه بموهبته الجبارة البركانية، عبدالحليم هو الذى كان محتاجاً للأبنودى وليس العكس، حليم كان يبحث عن كلمة مختلفة لمرحلة مختلفة، فوجد ضالته فى الأبنودى، منح الأبنودى خزانة أسرار موهبته لمحمد رشدى، فأحس عبدالحليم بالخطر القادم، وتيقن من أن رصيده القديم ليس كافياً للاحتفاظ بالقمة، فطلب اللجوء الغنائى للأبنودى وبليغ. عندما تصدى الأبنودى لجمع السيرة الهلالية وقدمها فى إذاعة الشعب على مدى ثلاثمائة حلقة تفوق على كل حاملى الدكتوراة فى التراث والأدب الشعبى، كان بمثابة عصا موسى التى التهمت حيّات التصنع والافتعال، لم يكن خريجاً لمعهد السينما قسم سيناريو أو تلميذاً فى مدرسة الحوار السينمائى، ورغم ذلك عندما كتب حوار وأغانى فيلم «شىء من الخوف» كان بصمة فى تاريخ كلاسيكيات السينما إلى الأبد. افتتح مدرسة لنفسه فى السينما والدراما، كان طالبها الوحيد والمتفرد، وبعد رحيله أغلقت أبوابها بالشمع الأحمر وإلى الأبد، أما حواراته التليفزيونية فهى تحف فنية تضاف إلى تراثه الإبداعى، فهو كما كان شاعراً عظيماً، كان حكاء أعظم، يمتلك مغناطيساً رهيباً جباراً يمسك بتلابيبك من أول حرف ينطقه، اجتمعت لغة الكلام ولغة الجسد ولهجة الجنوب وكاريزما الأداء ومخزون القصص الذى لا ينفد لتدشين الأبنودى، آخر الحكاءين العظام فى تاريخ مصر، مثله مثل كامل الشناوى ومحمود السعدنى، نفخ فى العامية روح السحر وعبق الفن، امتداداً لحداد وجاهين وقبلهما بيرم، نحت لغة جديدة ومصطلحات صكت باسمه حصرياً فى شهر عقارى الفن المصرى، ظل الأبنودى هدفاً لسهام الحاقدين وأرباع الموهوبين الذين انشغلوا بالأبنودى أكثر من انشغالهم بمحاولة صقل مواهبهم المتواضعة، جعلوا من الأبنودى شماعة يعلقون عليها فشلهم المزمن، لم يفهموا أن الشهرة والنجومية هى التى سعت هرولة إلى الخال وليس العكس، كثيرون من الممكن أن يكونوا شعراء، لكن القليل النادر هو الذى يحتل عرش الشاعر النجم الذى ينافس نجوم السينما، ويتمنى أى شخص أن يلتقط صورة سيلفى معه!! المدهش فى بلد لا يقرأ ووطن يعانى من سرطان الأمية أن يكون نجمه هو شاعر من الصعيد الجوانى، لكنها الموهبة الصادقة حين تظل جذوتها مشتعلة، فتمنح بريقاً حقيقياً لا يموت ولا يذبل ولا ينطفئ.