تعرفت على شخصية عالم الاقتصاد والرياضيات الأمريكى جون ناش من خلال فيلم «عقل جميل» لراسل كرو والذى حصد أكثر من جائزة أوسكار، قبلها لم أكن أعرف تفاصيل حياته ولم أكن قد قرأت الكتاب المأخوذ عنه قصة الفيلم الرائع الذى يعد من أفضل الأفلام التى شاهدتها فى حياتى، لم أمنع نفسى من التساؤل وقتها، وزاد السؤال وتضخمت علامة الاستفهام أكثر وأكثر بعدما قرأت خبر وفاته فى حادث سيارة أمس هو وزوجته الرائعة التى دعمته بكل حب وإخلاص، سألت نفسى ماذا لو كان جون ناش مريض الفصام الذى حصل على نوبل قد وُلد فى مصر وأكمل تعليمه هنا فى المحروسة؟!، الإجابة ستوضح الفرق بين التعامل مع المريض النفسى هنا وهناك، الإجابة ستؤكد لنا من هو الأكثر إنسانية والأكثر حنواً وتعاطفاً، فنحن نضحك على أنفسنا طوال الوقت بأننا الشعب الأكثر أخلاقاً والمتدين بالفطرة، وأن هؤلاء الغربيين هم الماديون الفاسقون الذين لا يعرفون الدين ولا الضمير، للأسف نحن كنا فجر الضمير، ولكن لماذا غربت شمسه لا أعرف؟! المهم لابد أن نعرف من هو جون ناش قبل أن نجيب عن السؤال، لابد أن نعرف حجم الرجل وقامته العلمية حتى نعرف كم الإنجاز وعظمة الانتصار الذى حققه ذلك الرجل، والأهم حجم العطاء وتمهيد الأرض لتلك الموهبة التى حققها المجتمع الذى عاش فيه وساعده وحفّزه على النجاح وصنع منه جون ناش العظيم. ولد جون ناش فى 13 يونيو 1928 والتحق بمعهد كارنيجى التقنى، وعشق الرياضيات وتفوق فيها. حصل على الدكتوراه وسنه 22 سنة عما يسمى نظرية التوازن، وعمل بعدها أستاذا فى جامعة برنستون الأمريكية. فى عام 1958 بدأت تظهر على جون ناش أعراض مرض الفصام، حيث ظن أن شخصاً آخر يشاركه السكن فى غرفته وكان يكلّمه أمام الناس، بينما هو فى الواقع لا يكلم إلا الفراغ، وازدادت حالته سوءاً وأصبح يظن نفسه مطارداً من المخابرات الروسية والأمريكية فتضاعفت هلوساته وأفكاره الضلالية، ما اضطر زوجته إليسيا فى عام 1959 إلى إدخاله مشفى (ماك لين) حيث شخصت حالته بأنها فصام ارتيابى مع اكتئاب بسيط وعدم تقدير للذات، كان يعالج بما يسمى صدمة الإنسولين، منتهى العذاب، حيث يتم حقن المرضى بجرعات كبيرة ومتكررة من الإنسولين لإنتاج حالات غيبوبة يومية على مدار عدة أسابيع. ظل ناش حتى عام 1970 يدخل المستشفيات العقلية ويخرج منها متنقلاً بين باريس وجنيف وبرنستون ولكنه فى النهاية قرر التوقف وللأبد عن تناول العقاقير والأدوية التى أثرت على حياته الزوجية. بعدها وبمساعدة من زملائه ومحبيه عاد جون ناش لقسم الرياضيات فى جامعة برنستون كباحث ولكنه منع من التدريس لحالته المرضية، هناك بدأ جون من جديد، حيث ظل يبحث بطريقة عجيبة فهو لا يكتب معادلاته الرياضية على الورق بل على النوافذ والجدران وكان يفكر بصوت مسموع. فى بداية الثمانينات استغل جون ناش ميزة البريد الإلكترونى ليتواصل مع علماء الرياضيات ويطلعهم على أبحاثه وكانت النتيجة أنه فى عام 1994 حصل جون ناش على جائزة نوبل. كانت هذه هى سيرة حياة جون ناش الأمريكى، لكن ما هى حكاية جون ناش المصرى؟! بالطبع لو كان جون ناش ساقه حظه العاثر ليكون مريض فصام مصرياً، كانت أقصى أمانيه أن يجسد دور عبيط القرية فى مسلسل مصرى، يجرى خلفه الأطفال ويرمونه بالطوب بمنتهى القسوة، فى الجامعة لن يترقى بل لن يعين أصلاً، سيزدريه ويحتقره زملاؤه وجيرانه، أسرته ستصاب بالزهق وتلقيه فى الشارع ليلقى مصير الممثل مكيوى بطل القاهرة 30 الذى افترش الرصيف فى القاهرة 2000، أو مصير الشاعر نجيب سرور الذى هام على وجهه وسبّ الجميع فى هجائية احتوت على كل قاموس الشتائم، سينظم المرور فى الميادين، ترفضه المستشفيات الحكومية، يتلطم لأنه لا يمتلك سعر ليلة من ليالى مستشفيات النفسية الخمس نجوم، يدخل مستشفى من مستشفيات بير السلم، رشوة للتمرجى فينفحه هدية من الترامادول، رجاء من الطبيب الذى لا ينظر إلى وجهه وهو يكتب الروشتة المحفوظة، يموت جون ناش المصرى ويدفن ثم يكتب على شاهد قبره عاش مجنوناً ومات مجهولاً.