روسيا، أو بالأصح الاتحاد السوفيتى بالنسبة لجيلى، ليست مجرد مساحة جغرافية متسعة على خريطة، ولكنها كانت مفردة يومية داخلة فى تفاصيل حياتنا منذ الطفولة، ذكريات من لحم ودم، بشر ذوو أجسام ضخمة وبشرة مشربة بالحمرة من الممكن أن تجدهم إلى جانبك فى السوق فى حالة فصال مع البائع، أو أثناء تجوالك فى معرض أو حديقة، تشاهدهم عادة كأسرة الزوج والزوجة والأطفال، مشهد عادى جداً فى الستينيات والسبعينيات، كان البعض يعتبره احتلالاً واتجاهاً نحو الشيوعية، وكانت الغالبية تعتبره نكاية فى الأمريكان الذين منعوا عنا السلاح وسحبوا تمويل السد العالى، يدور شريط الذكريات للطفولة والمراهقة بمشاهد وكادرات متفرقة أقتبسها من تفاصيل الحياة العادية، لا من محاضر الاجتماعات الرئاسية. مشهد ضغطة خروشوف على زر التفجير إيذاناً ببدء مشروع السد العالى، المشهد من نشرة ستوديو مصر التى كانت تعرض فى السينما قبل الفيلم، نصفق فى قاعة السينما بحرارة، ناصر يبتسم للزعيم السوفيتى الذى كانت انطباعاتنا عنه تتلخص فى العصبية والاندفاع، أليس هذا الرجل هو الذى وضع الحذاء على منصة مجلس الأمن فى أزمة كوبا وخليج الخنازير؟!، لكننا رأيناه يومها بسيطاً مبتهجاً وكأنه فى حفل زفاف. كانت تركيبة الحزب الشيوعى السوفيتى تمثل لنا لغزاً ونحن مازلنا نتهجى ألف باء السياسة، ما هى هذه اللخفنة واللخبطة، يعنى إيه رئيس جمهورية ورئيس حزب وسكرتير حزب؟، ما هو الفرق بين بريجنيف وكوسيجين وبودجورنى... إلخ؟، مين باختصار المهم فيهم؟!، وطبعاً كان الحس الساخر للمصريين تتفجر ينابيعه عندما تشير الصحف المصرية إلى سياسى روسى عنده تمانين سنة وتصفه بأنه من شباب الحزب الشيوعى السوفيتى!. أثناء إجازتى الصيفية فى دمياط أجد قريتى الشعراء قد تحولت إلى خلية نحل، ما هى القصة والحكاية؟، ورش الموبيليا تستعد للتصدير إلى روسيا، حركة دائبة، ومواعيد منضبطة، وفلوس تحرك عجلة الاقتصاد الدمياطى، والنجار والأوسترجى والأويمجى البسيط عارف إنه حيقبض فلوسه وحقه بكره، ولن يظل مطارداً للتجار الحيتان، متسولاً حقه منهم وكأنها هبة أو منحة، كان موسم التصدير هو زفة دمياطى للمحافظة كلها. الجناح الروسى فى معرض الكتاب أيام ما كان فى مكان الأوبرا أمام كوبرى قصر النيل هو أكبر جناح، وكذلك فى المعرض الصناعى، بالطبع كانت كتب لينين تحتل نصف الرفوف وبقروش زهيدة، كان الزحام رهيباً، فقد كانت الكتب تباع وكأنها هدايا، أتذكر قصص الأطفال التى كنت أجمع منها العشرات، ترجمات تشيكوف وجوجول وتولستوى وديستوفيسكى، حوارات ساخنة داخل المعرض وعلى صفحات الجرائد عن الرواية الواقعية المعبرة عن هموم البروليتاريا، وهجوم ساحق على روايات إحسان عبدالقدوس التى تعبر عن المجتمع المخملى من وجهة نظرهم، ظلم إحسان وغيره كثيراً ولم يهتم به نقاد اليسار الذين كانت معهم العصا السحرية وجواز المرور إلى المجتمع الثقافى فى ذلك الوقت. فيلم يوسف شاهين عن الناس والنيل، نصف أبطاله من الروس، نشاهده فى السينما وكأننا نشاهد فيلماً أجنبياً دعائياً غريباً، تزيد من غرابته وغربته لغة يوسف شاهين الصعبة علينا فى هذه السن، يقابله مشهد كوميدى كنا نحفظه جميعاً فى فيلم جناب السفير عندما يدخل السفير الروسى إلى سفارة فيحان، عارضاً بيع الجرارات الزراعية، مداعباً فكرتنا التقليدية المحفوظة آنذاك عن أن الصناعة الروسية ضخامة ومتانة بدون مراعاة للجماليات والرفاهية والفخامة. عمر الشريف نجمنا المصرى العالمى الذى اختفى فجأة من على شاشاتنا يُعرض له فيلم فى دور السينما الأمريكية مكسر الدنيا، دكتور زيفاجو عن قصة لروائى روسى مطرود من جنة الحزب، مع المراهقين من أصدقائى نبحث ويقتلنا الفضول عن تلك الرواية، فلم يكن قد اخترع وقتها اليوتيوب وتحميل الأفلام من على النت، كنا مراهقين سناً وفكراً ومحتارين نحب عمر الشريف المصرى بتاع «صراع فى الوادى» و«فى بيتنا رجل»، أم نكرهه لأنه فى نظرنا عميل أمريكانى ينفذ أجندة العم سام فى ظل الحرب الباردة بينه وبين الدب الروسى، ويشوه المجتمع الروسى بفيلم مفبرك لصالح مصالح هوليوود!!، كانت الصحف تكتب عن أنه قبّل ممثلة يهودية ويجلس ليلعب البريدج مع اليهود، كنا نصب عليه اللعنات حينها، واكتشفنا عندما كبرنا وغزانا الشيب أننا حلمنا كثيراً، وزُيّف وعينا كثيراً، وكانت انطباعاتنا عن البشر والدنيا يسكنها الكثير من الضلالات، كنا نفكر بانفعال المراهقة سناً وفكراً.