أخطر ما يصيب الأوطان ليس فقدان الأرض، وإنما فقدان روح الكوميديا، الكارثة ليست أن تفقد مساحة تراب داخل حدودك، ولكنها أن تفقد مساحة تسامح فتتعدى وتخرج عن حدودك وتفقد وجودك، فالأرض من الممكن أن تُسترد بالحرب وبالقتال أو بالتفاوض، لكن روح صناعة وقبول الكوميديا لا تُسترد، وإن ضاعت ضاع معها التسامح والقبول والرضا والتحمل، روح السخرية العبقرية التى كانت كامنة فى الشعب المصرى بدأت فى التلاشى والخفوت، مجرد نكتة أو إيفيه فى مسرحية عن فريق رياضى تُجيَّش له الجيوش وتقوم القيامة وتبدأ المعارك وتعتذر الفرقة ويهدد النادى ويصعد الجمهور ويتحرك الألتراس!! وكأن الممثل ألقى بقنبلة هيروشيما لا بإيفيه مسرحى! التجهم والجلافة والغلظة صارت مفردات سلوكنا، وبناء أسوار ومتاريس وحواجز وموانع حول ذواتنا المتضخمة أصبحت حروف أبجديتنا، ولا يحاول إنسان أن يقنعنى أن ما يسمونه سخرية على الفيسبوك ينتمى إلى هذا الفن الرفيع، فهذا ليس التناول الكوميدى ولكنه التطاول غير الكوميدى، هناك فرق بين فن السخرية ووصلة الردح، ما يحدث من سباب وشتيمة ونهش فى الأعراض على وسائل التواصل وفى حياتنا عموماً قل عنه أى شىء، أو صِفْه بأى صفة إلا صفة الكوميديا والسخرية، الكوميديا فن رفيع وراق وسامٍ، والأهم أنه فن يعتمد على العقل لا العواطف مثل الميلودراما، لا يمكن لمن اضطرب عقله أن يفهم موقفاً كوميدياً، وأن يفكك مفرداته، لكنه من الممكن أن يبكى من مشهد ميلودرامى، فأنت مثلاً عندما تشاهد مسرحية حواء الساعة 12 وتضحك على فؤاد المهندس وهو يشخط فى شبح زوجته الميتة شويكار أمام زوجته الحالية زهرة العلا، أنت فى هذه الحالة تقوم بسلسلة عمليات ذهنية معقدة تنتهى بالضحك والقهقهة، تتخيل أن شويكار غير موجودة على المسرح وتشطبها مؤقتاً، وتقتنع بأن زهرة العلا لا تراها وتتفاعل مع توتر فؤاد المهندس ولخبطته، ثم تضحك وتكركر نتيجة هذه العمليات المركبة المعقدة التى تتم فى ثوان داخل عقلك!! لذلك يزعجنى جداً أن نفقد إحساسنا الكوميدى، لأن معنى ذلك أننا فقدنا العقل وتاهت منا بوصلة التفكير، كان المسلم المصرى يجلس مع المسيحى المصرى وهما يلعبان الطاولة أو الدومينو، ويتبادلان سلسلة نكت الشيخ والقسيس، ويضحكان معاً ويقهقهان، يخبطان الكفوف وتدمع الأعين من كثرة الضحك، لم يكن هناك التربص والتحفز، وترجمة النكتة على أنها ازدراء للعقيدة وإهانة للدين وإثارة للفتنة الطائفية، كان المصرى يمارس التريقة على نفسه، كان نجيب محفوظ فارس الحسين والجمالية وقهوة الفيشاوى فى القافية لم يهزمه منافس أو مبارز فى حلبة السخرية، ولهذا أصبح هذا الشاب سريع البديهة دارس الفلسفة الروائى العالمى نجيب محفوظ، لأنه كان يمتلك حس الكوميديا التى هى عصير الحياة المُركَّز، رادار الكوميديا هو أهم رادار حساس فى الدنيا، والشعب الذى فقد النكتة هو شعب فقد النطق، الوطن الساكت عن النكتة مصاب بالسكتة الدماغية، كانت صناعة النكتة فى مصر هى الصناعة رقم 1 قبل الغزل والنسيج، غزل النكتة ونسج الإيفيه كان فناً يميز المصريين عن جميع العرب ويعينهم على المرور من ثقب الإبرة وتجاوز محيط ألغام الفقر والمعاناة، بارت صناعة النكتة وأغلقت بورصة السخرية وجفت آبار الضحك، رحل السعدنى بسوطه وصوته وحضوره الكاريزمى وشقاوته اللاذعة لا الجارحة، ودَّعنا محمد عفيفى ومعه ودَّعنا الكوميديا الشيك الأنيقة الرقيقة والموجعة فى نفس الوقت، مات أحمد رجب وشمت فى وفاته كهان الجهامة أعداء الحياة، وأغلقت أبواب المسرح أمام أسطى الكوميديا على سالم فاعتزلها وصار يبحر معنا فى عالم السياسة الكئيب، فقدان الحس الكوميدى جرس إنذار ولمبة حمراء وعلامة خطر تستحق الاحتشاد والدراسة، النكتة ليست فضفضة فقط ولا مجرد تنفيس أو فتحة فى البراد الذى يغلى بالمشاكل والاحتقان، النكتة صمام أمان وصورة أشعة تطمئنك على مزاج ووعى هذا الوطن، الكوميديا جس نبض على شريان الحياة وسريان الروح، القمص وعدم قبول النكتة والهذار هى علامات مرض عضال فى جسد الأمة، أنيميا الكوميديا هى أولى علامات وأعراض سرطان الروح.