وصلتنى رسالة مهمة مطروحة للنقاش من الإسكندرية من المهندس عبدالعزيز السعودى يحذر فيها من وجود عدة ثغرات فى الدستور تسمح بتسلل الدولة الدينية وتكريس استبدادها، وهى من وجهة نظره: 1- دين الدولة ومصادر التشريع، بالنص فى المادة الثانية على «دين الدولة الرسمى الإسلام واللغة العربية هى اللغة الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، وهى المادة التى حرصت لجان كتابة الدساتير فى مصر منذ دستور 71 على الحفاظ عليها تأكيداً لحرصه على إعاقة ومصادرة أى محاولة لاستكمال أسس ومقومات بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة. أ- فتحديد دين للدولة والنص على أن الشريعة المصدر الرئيسى للتشريع يعنى أن مرجعية الدولة هى الدين، يعنى الدولة الدينية ذاتها التى هى دولة مرجعيتها الرئيسية دينية وبغض النظر عن كون الحكومة مشكلة من رجال الدين أنفسهم أم أن دورهم مقصور على الإفتاء بموافقة التشريع للشرع قبل إصداره. والدولة الدينية تجاوزها العصر والتمسك بها هو عودة لجهالة وظلامية العصور الوسطى، فهى دولة التشكيلات الاجتماعية الخراجية والإقطاعية فى التاريخ الإنسانى كله (بما فيها مجتمعاتنا العربية) التى عبرت حينئذ عن متطلبات ذلك العصر وصيغة الدولة الملائمة لتلك التشكيلات الاجتماعية. أما الدولة المدنية الحديثة فهى التجاوز التاريخى للعصور المظلمة للإقطاع والتعبير عن حاجة جميع أفراد المجتمع الحديث للاجتماع والتمدن وتقوم على إخضاع جميع الانتماءات والهويات فى المجتمع لانتماء جديد هو المواطنة الواحدة وإخضاع الهويات الدينية والإثنية والعرقية والقبلية لهوية جديدة هى الهوية القومية، وهى تعتمد على المعرفة الإنسانية بمعناها الواسع والعلم والفكر الإنسانى فى أحدث وأرقى صوره مرجعية لها. نعم، نص المادة الثانية بالدستور المصرى -وما جاء بخصوصها فى مقدمته- لا يطبق بالفعل (ولا يمكن له أن يطبق) تطبيقاً كاملاً بسبب تجاوز الواقع المعيش فى كثير من الحالات لحدود الشريعة، وهذا هو الإشكال بعينه. فالحرص على إشهاره فى صدر الدستور يضع المجتمع فى حالة قلق دائم مصدره مطالبات جماعات الإسلام السياسى والقوى الرجعية الأخرى بضرورة احترام النص المعطل بالدستور وظهورها بمظهر القوى الأكثر وفاءً واتساقاً من الدولة والقوى السياسية الأخرى مع دستور البلاد، ويقدم لتلك الجماعات مرتكزاً دستورياً لمحاولة عبثية لإعادة عقارب الساعة لما يزيد على ألف عام للوراء، كما يرسخ للاستبداد الفكرى والسياسى بتقييد الفكر وحرية الإبداع والتشريع وتجميد التطور الاجتماعى والسياسى. ب- تحديد دين الدولة فى الدستور ينتهك مبدأ المواطنة (الركيزة الأولى للديمقراطية) والتى لا تتحقق بصورة كاملة وصحيحة دون المساواة التامة فى الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد من دون النظر إلى الدين أو النوع أو اللون، وهو عامل ضعف للوحدة الوطنية بين المصريين المسلمين وغير المسلمين ولرابطة الانتماء الوطنى للمصريين غير المسلمين. أما محاولات تجميل عملية تثبيت تحديد دين الدولة ومصدر التشريع باقتراح تحصين هذا المبدأ بـ«الضمانات الدستورية التى تؤكد حق غير المسلمين فى الخضوع لشرائعهم الخاصة» (المادة الثالثة) فهو ما يزيد الطين بلة؛ إذ يؤسس دستورياً لدولة دينية/طائفية شبيهة بما فعله المحتل الأمريكى فى العراق من خلال دستوره الذى وضعه «بريمر»، كفيلة -إذا ما توافر شرطها- أن ترتب مؤسسات أمنية وقضائية منقسمة على أساس طائفى. ج- تحديد دين للدولة وجعله المصدر الرئيسى للتشريع يخلق بيئة حاضنة دائماً للتمييز الدينى وللفتنة الطائفية الموجودة جذوتها دائماً بما ييسر إشعالها لكل من له مصلحة دنيئة فى ذلك، وهذه الجذوة نتاج ترسبات تاريخ طويل من تعصب القرون الوسطى تجددها وتوسعها وتؤججها بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة الداعية لجهالة وظلامية الدولة الدينية. ولا سبيل لقطع دابر الفتنة والتمييز الدينى إلا بإطفاء جذوتها بالتصدى لإدخال الدين فى السياسة وللمحاولات الرجعية الدءوبة للحفاظ على مخلفات الدولة الدينية وإنعاشها فى ثقافتنا وقوانيننا ودستورنا، وهو ما لا يمكن بلوغه فى ظل دستور ينص على دين معين للدولة ويعامل غير المسلمين بهذا النص فى حد ذاته كمواطنين من الدرجة الثانية.