أثناء إجازة العيد ومن داخل حدود معشوقتى الجميلة بورسعيد تأملت موقفاً ما زال يمثل بالنسبة لى لغزاً لم يحل بعد، كانت نافذة غرفتى تطل على مشهد بديع من أجمل المناظر الطبيعية، البحر والسفن تتهادى استعداداً للمرور من القناة، يكسر المشهد ويجعله نشازاً قاعدة عارية بلاتمثال!! القاعدة جميلة تخبرنا بأنه ثمة تمثال بديع كان يقف عليها، إنه تمثال ديليسبس الذى رفعوه من المكان بعد 1956 احتجاجاً على اشتراك فرنسا فى العدوان الثلاثى ثم أخذ الأمر أبعاداً أخرى من قبيل إزالة رمز الاستعمار والعبودية وسخرة الفلاحين.. إلخ، تغير كل شىء فى مصر وتبدل إلا أن موضوع عودة ديليسبس على قاعدته صار من المحرمات ومن قبيل الكفر والزندقة وقضية شائكة دونها الرقاب!! من الناحية الفنية التمثال الذى يرقد فى الترسانة تحفة ومنحوتة جمالية رائعة ستمنح المكان منظوراً بديعاً ومشهداً فريداً قلما يتكرر فى مصر، يمسح من ذاكرتنا المنحوتات القبيحة التى جادت بها قريحة نحاتى زمن العشوائيات والتى تجعل الفراعنة الذين علموا فن النحت للعالم ينتفضون فى قبورهم حزناً على أحفادهم، أما تاريخياً فنحن بالطبع نحترم انفعال وغضب ثوار بورسعيد المشروع وقتها الذى جعلهم يخرجون البخار المكتوم فى شكل إزالة ومحاولة تحطيم التمثال الذى ترجموه فورياً إلى رمز الاستعمار، وأحياناً الفعل الانفعالى الثورى يكون مخاصماً للمنطق وبعد مرور السنين يتضح أنه كان أداء أوفر، لأننا لو تكلمنا منطقياً وبهدوء هناك عدة ردود على الشعارات التى يرفعها المنادون بعدم عودة تمثال ديليسيبس إلا على جثثهم وكأنهم فى معركة ستالينجراد!! فالمنطق يقول لمن يتهمون ديليسبس بأنه أهدر حياة عشرات الآلاف من المصريين الذين دُفنوا أثناء الحفر، كان الأولى بكم أن تهدموا تماثيل من أصدر الأمر وسمح لديليسبس بهذا وهو سعيد ثم إسماعيل، لكن الخديو إسماعيل على سبيل المثال له أكثر من تمثال، والسؤال هل ديليسبس هو المهندس صاحب فكرة القناة أم أنه بائع بطاطا على شط القناة؟! هو صاحب الفكرة وهى حقيقة تاريخية لا يستطيع إنكارها جاحد، وإذا لم نكن قد نسينا الإساءة لفرنسا على اشتراكها فى عدوان 56 فلماذا نشترى منها الرافال الآن؟! وهى أصبحت وما زالت أكبر دولة أوروبية مساندة لنا الآن وأعتقد أن دور أحد مواطنيها وهو ديليسبس فى حياتنا أهم من دور سيمون بوليفار الذى يقف تمثاله شامخاً بحانب أهم ميدان فى مصر!! العلاقات بين الدول لا تحكمها شعارات الحنجورى الانفعالية ولا يعقل أن تكون الجزائر التى مات منها مليون على يد الفرنسيين أكثر مرونة مع فرنسا من المصريين الذين لم يمت منهم واحد على ألف من هذا العدد فى العدوان الثلاثى أو حتى فى الحملة الفرنسية التى مثلما احتلتنا مثلما كانت علامة فارقة فى حياتنا العقلية والفكرية وبداية عصر التنوير بعد الظلام العثمانى!! تحطيم التماثيل التى تسكن الميادين لا يبنى أوطاناً لكن يبنيها تحطيم أصنام الخرافة والجهل الذى يسكن العقول، والحقائق التاريخية لا يطمسها صراخ أو دهانات بوية أو رفع تمثال من قاعدته أو تحطيمه بمعول، فلنفكر بالمنطق والعقل حتى نرسل رسالة للجميع بأننا شعب منطق وفكر وعقلانية، ولنضع على الجانب الآخر من الشارع ومطلاً على القناة أيضاً تمثالاً عملاقاً منحوتاً بفن وإبداع لفلاح مصرى شامخ يشير أيضاً إلى القناة، ولنكف عن مغازلة الناس بشعارات صارت فى متحف التاريخ، وليعود ديليسبس إلى قاعدته ليس تمجيداً لديليسبس ولكن تمجيداً للمنطق والعقل ولاحترام التاريخ.