من ذكريات الطفولة عندما كنت أزور قريتنا فى دمياط أثناء الإجازة الصيفية مع أبى، وجوه كثيرة لا تُمحى ملامحها، يُطل من نافذة تلك الذكريات الرجل الطيب المبتسم المشرق صاحب الذقن المهذّبة الذى كان يُطبطب على كتفى، ويدعو لى دائماً بالنجاح، أشير إليه وأسأل أبى فيقول ده عم «عبده السنى»، ده راجل طيب وبركة، وأحياناً بييجى يقرا قرآن فى بيت جدك كل جمعة، وآخر السنة ياخد نص شِوال رز!!، لماذا تغيّر وجه عم «عبده السنى»، فصار مكفهراً مقطب الجبين، عابس الملامح، مخاصماً للابتسامة، أشعث اللحية، متعالى النفس، غليظ الروح، جلف السلوك، صار عم عبده يُفضّل لقب السلفى الذى منحه مكانة اجتماعية بارزة فى القرية، أصبحت زبيبته سبوبة، ولحيته «بيزنس»، وجلبابه تجارة، وما يحفظه من أحاديث أكل عيش واسترزاق!!، تحول الجد عم «عبده السنى» إلى الحفيد عم «عبده السلفى»، هذا ما يناقشه هذا الكتاب المهم لقديس الحركة الطلابية الوطنية المصرية فى السبعينات المهندس أحمد بهاء الدين شعبان، الذى ما زال يناضل حتى الآن بنفس الدأب والحماس والمثابرة والنبل والزهد، رجل بوصلته الوطنية واضحة، لذلك لم يقع فى فخ الدعوة المراهقة الهزلية لمصالحة الإخوان، التى للأسف تنطلق الآن من بعض المنصات اليسارية. الكتاب عنوانه الأساسى «السلفى الأخير»، أما العنوان الجانبى فهو الإرهاب المعولم والداعشية المصرية، الكتاب رؤية تحليلية ثاقبة وذكية للإسلام السياسى بصفة عامة وللحركة السلفية بصفة خاصة، ومن خلال ملاحظة وتوثيق تطور هذه الحركة يوضح مدى خطورتها التى لا تقل أبداً عن خطر الإخوان، يطلق عليهم المؤلف «الأنبياء الكذبة»، يفتح الكادر ويعود بآلة الزمن إلى بداية تكوين الجماعة الإسلامية فى الجامعة، وهو أحد شهود تلك المرحلة، ويوضح دور الثلاثى «السادات وعثمان أحمد عثمان ومحافظ أسيوط»، فى تشكيل النواة لضرب اليسار، إلى أن نصل إلى أخطر مراحل تكوين السلفية الجهادية فى أفغانستان، وعودة جحافل الشر من هناك لزرع نابالم الفتنة بمساعدة أمريكية، حتى نصل إلى الإرهاب المعولم «داعش» و«القاعدة»، التى تستخدم أحدث التكنولوجيا، لتحقيق أكثر الأهداف تخلفاً!!، كيف ظهر مقاولو الأعمال الدينية؟، كيف اكتسحنا تسونامى التسلف؟، كيف اغتصبوا الفضاء العام وسيطروا على الأدمغة وحكموا الشارع؟، كل هذا يجيب عنه الكتاب بالوثائق والأقوال وكتابات قيادتهم، وهى ميزة كبرى للكتاب تجعله مرجعاً لتوثيق تلك الفترة، ينبهنا المؤلف إلى أن الإرهاب حالة ذهنية قبل أن تكون أمنية أو حتى دينية تنتمى إلى عقيدة بعينها، لذلك فهو لا يكتفى بالتشخيص ولا يقتنع فقط بالحلول الأمنية، لكنه يُقدّم فى نهاية الكتاب روشتة علاج تطرح كل الحلول والبدائل، وهى روشتة صالحة، لأن تكون خارطة طريق ومانيفستو خطة عمل جادة طويلة النفس، أحمد بهاء الدين شعبان صريح وواضح ولا يُمسك العصا من المنتصف، لذلك لا يلف ولا يدور مثل البعض الذين يدعون إلى المصالحة تحت مظلة الصلح خير، وكأنها خناقة على من يدفع المشاريب!، إنه ينتقد، بل يهاجم بعنف وضراوة، لكنه عنف وضراوة الوطنى المخلص الذى يعرف أن الضباع المتشوقة للدم لا يمكن أن تتحول فجأة إلى حيوانات أليفة، إنه يصفهم بدعاة «المصالحة المزيفة المتواطئين من أجل إعادة القتلة والمجرمين إلى التحكم فى رقاب مصر والمصريين واغتصاب ملك المحروسة مرة أخرى، لكى تنتهى الدولة التاريخية الأقدم والشخصية الوطنية الأقيم مرة وإلى الأبد». ويؤكد «بهاء» ضرورة التفرقة بين المعارض السلمى والإرهابى الموتور الذى باع الوطن والشعب لأعداء الأمة. الكتاب وثيقة إدانة ومعمل تحليل ومشرط علاج لكاتب يجب أن نستمع إليه جيداً، لأنه ابن الحركة الوطنية البار الذى ضبط راداره الوطنى على مصلحة ذلك البلد، وليس على مصلحة ذلك التنظيم أو تلك الإمارة!!.