إذا كان السجن هو ثمن أن يتحرّر الوطن من أسر واستعمار الفكر الوهابى، فمرحباً به، ففرج فودة دفع وقدّم حياته، وليس حريته فقط، لكن إذا كان السجن مجانياً لمزيد من ترسيخ هذا الفكر وتدليله ومغازلته فإنه يصبح نوعاً من الحماقة، عندما صدر الحكم بسجن إسلام بحيرى كتبت رسالة مطولة إلى الرئيس السيسى ما زالت صالحة للقراءة بعد الإفراج عنه، أقتبس منها بعض العبارات، لعلها تصل أو تُقرأ قبل الطوفان. عندما قتلوا فرج فودة اغتالوا المفكر، وعندما سجنوا إسلام بحيرى اغتالوا التفكير! وهذا هو الخطر الأكبر والمصيبة العظمى، الفكرة أكبر وأخلد من المفكر ذاته، يرحل الجسد وتبقى الفكرة محلقة طليقة تنثر بذور الخصب والنماء فى أرضنا المجدبة القاحلة، اغتيال هذا الطائر ببندقية التزمّت والتعصّب والانغلاق، يعنى خلو السماء من الأجنحة والألوان والنغم لتبقى الغيوم والصقيع والكآبة. رسالتى موجهة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى، أقول له.. نعم لقد أزحت الإخوان أشخاصاً، لكنهم للأسف ترسّخوا فكراً، نعم طالبت بالتجديد الدينى، لكنك لم تمنح أى مفكر أو مجدّد منديل الأمان، تركته نهباً لسلطة دينية غاشمة عارى الصدر أمام رماح وسهام المتربصين من تجار الدين والمؤلفة جيوبهم! حذّرت الشيوخ بالمحاججة يوم القيامة، فاطمأنوا إلى أن مكاسبهم الدنيوية الأهم لديهم، بأنها لن تُمس، وتعاملوا بمنطق «ابقى قابلنى، فنحن الواسطة، ونحن أصحاب التوكيل الحصرى للجنة، ومعنا توكيلات السماء، وضامنون أننا محصّنون يومها ضد المحاججة»! صدّق «إسلام» وصدّقنا معه أننا بالفعل على أبواب ثورة دينية.. صدّق وصدّقنا معه أن السلطة والمجتمع فى مصر تكره «داعش»، الحقيقة المرة أنها تكره «الدواعش الاستيراد»، وتُربى الدواعش المحليين للتصدير، تربيهم بمناهج الأزهر ومنابر المساجد وفصول التعليم وزوايا السلفيين.. صدّق وصدّقنا معه أن المجتمع منزعج فعلاً من الذبح باسم الجهاد، وقهر المرأة واغتصابها باسم العفاف، والإرهاب باسم الجهاد، اكتشفنا أنه منزعج فقط من الصورة التليفزيونية، لكنه مطمئن جداً إلى الصورة الذهنية، مقتنع تماماً بأن المرأة عورة فى قاع جهنم، وبأن المسيحى والشيعى والبهائى.. إلخ، مكانهم الطبيعى «غرفة عشماوى»، وجزاؤهم «سيف مسرور»، لم ينزعج الأزهر والشيوخ والسلفيون من كتابات مفكرين قبله تخطت وتجاوزت أفكار إسلام بحيرى بمراحل، ما أزعجهم حقاً هو التليفزيون، الوسيلة التى استخدمها، أصابهم الفزع والرعب أن يعرف العامة المسكوت عنه فى التراث، أن يفكروا، أن يناقشوا، أن ينتقدوا، أن يستخدموا العقل، ذلك الجزء الضامر مصرياً وعربياً وإسلامياً بفعل الإهمال وعدم الاستعمال وسوء الاستخدام، الذى تحول بفعل الزمن إلى زائدة دودية مصيرها البتر حتى لا تصيب الجسم بالتسمُّم! كشف المسكوت عنه وفضح مناطق التراث الظلامية وحض الناس على التفكير النقدى الحر يُزلزل عروش سماسرة الدين ويغلق بوتيكاتهم، فالقضية لديهم ليست الدفاع عن الرب، لأن الرب هو الذى يُدافِع عنا ولا يُدافَع عنه، القضية الأساسية هى الدفاع عن المصالح وعن البيزنس. رئيس مصر.. لقد خرجنا فى «30 يونيو» ضد «الإخوان» كفكر وليس كأشخاص، لم نهتف «يسقط يسقط حكم المرشد» لأننا ضد شخص «بديع»، لكن لأننا ضد فكر التكفير، لم نتظاهر ونخرج فى الشوارع إلا لندخل عصر التنوير والحداثة لا لكى ندخل سجن طرة!! وهذه كانت عبقرية «30 يونيو»، كان عقدنا معك مشروطاً بأن تخلصنا من هذا الفكر بكل أطيافه وأقنعته التنكرية، كان خصامنا مع الذقن التى تنمو إلى الداخل فتتحول إلى أحراش تعوق نمو العقل وتطور الروح وبهجة الحياة وليست أبداً مع الذقون التى تنمو إلى الخارج، لم يكن تفويضاً أو شيكاً على بياض، تمت إزاحة «التنظيم»، لكن ظل التنظير، بل تمدّد وتشعّب الفكر الإخوانى الإقصائى التكفيرى، وتمت تقوية قبضة الأزهر الرقابية وبالدستور، وتم الحفاظ على مواد وقوانين سيئة السمعة مثل «الازدراء»، بل تم تفعيلها، وبشكل أكثر بطشاً من قوى الرجعية الدينية، لا يمكن أن أتخيل أن الرئاسة تحركت فى زمن «مبارك» بكل خطاياه، لإلغاء قانون الحسبة، إنقاذاً لرقبة نصر أبوزيد، وفى زمنك أنت، وبعد ثورتين، يُسجن إسلام بحيرى وباقى الطابور ما زال فى انتظار المقصلة!!، لا أتصور أن تكون قد طالبت المثقفين بتجديد الخطاب الدينى والقيام بثورة دينية دون إعطائهم منديل الأمان وتركهم ظهورهم للحائط وصدورهم مغروسة فيها الخناجر، ثم يُقال للغرب نحن لدينا حرية تعبير غير مسبوقة!! يا رئيس مصر.. إسلام بحيرى ليس على رأسه ريشة، لكن فى رأسه فكرة وحلم، مهما كان مدى الفكرة ومهما كان سقف الحلم، فإنه لم يكوّن عصابة أو يشكل تنظيماً عسكرياً لفرض فكرته، وهذا هو الخلاف بين أفكار التجديد والتنوير والحداثة، وبين أفكار الإسلام السياسى التى حتماً تتحول إلى قنوات دم واقتتال، إسلام بحيرى لم يرأس تنظيماً للذبح والسحل والحرق والتفخيخ، كل جريمة «إسلام» أنه فكر وغرد خارج السرب وخرج عن القطيع، سيقول البعض إنه قد صدمنا، ولا بد أن يأخذنا بالهدوء والروية، يا سادة.. الفصام أحياناً يحتاج إلى الصدمات الكهربائية، وفصام المجتمعات أقسى وأشرس من فصام الأفراد.