اليوم العالمى للصحة النفسية، الذى يوافق 10 أكتوبر من كل عام أصبح مناسبة للتوعية وتسليط الاهتمام على أكبر وأكثر الأمراض إيلاماً ووجعاً فى الدنيا، الذى يتفوق فى شدة ألمه على مرض السرطان، المغص النفسى، ألمه يعصر الروح ويخنقها ولا ينفع فيه حقنة المورفين، بينما المغص العضوى ينقبض فيه حالب أو رحم أو مرارة، لكنه فى النهاية يستجيب للمسكن، جوع الروح للأمان النفسى والسكينة أقسى آلاف المرات من جوع المعدة إلى الطعام، استمعت فى هذا اليوم إلى خطاب الأمين العام للأمم المتحدة، الذى قال تعبيراً عبقرياً جميلاً نحتاج إلى تكراره والتركيز على نشره والوعى به هذه الأيام، لقد قال: «إننا نحتاج إلى الإسعافات النفسية الأولية»!!، تعبير كان قد صكه الخبراء والعلماء فى الأساس لمواجهة الكوارث الكبرى مثل الزلازل والبراكين والحروب.. إلخ، لكننا نحتاجه الآن لمواجهة تصحّر الوجدان وأنيميا الروح، وسرطان النفس، زيادة نسب الانتحار ومرضى الاكتئاب بمتوالية هندسية مرعبة فى العالم كله يدق ناقوس الخطر ويشير إلى أهمية نشر ثقافة الإسعافات النفسية الأولية، ليس الغرض أن أتحول أنا وأنت إلى أطباء نفسيين، لكن الغرض هو أن تكون أنت كأول مستقبل، وأول عين، وأول أذن، تتعامل مع صاحب المشكلة أو الكارثة أو المرض، مؤهلاً ومتدرباً على التعامل والاستيعاب، فأنت عندما ترى مصاباً فى حادث سيارة ليس لزاماً عليك أن تكون جراحاً أو طبيب عظام، لكنك ستتعامل بمبادئ الإسعافات الأولية التى تعلمتها فى الهلال الأحمر، أو فى برامج الإعلام، أو فى المدرسة، كيف توقف النزيف وتُضمد الجراح، وتحمله بمهارة إلى سيارة الإسعاف كى لا يتفاقم الكسر، وقف نزيف الروح وتضميد جراح النفس فى درجة الأهمية نفسها، بل هى أحياناً أهم وأخطر، شنطة الإسعاف تحتوى عادة على شاش وبلاستر وميكركروم.. إلخ، شنطة الإسعافات النفسية لا بد أن يكون فيها حب وود وتواصل واحتواء ودعم وطبطبة وفهم وإصغاء واستيعاب وتفاعل، كما أنه ليس كافياً أن تقول لمصاب بكسر فى الفخذ يا عم ارمى ورا ضهرك، حاجة بسيطة ومش مهمة وتعدى، فليس كافياً ولا معقولاً أيضاً أن تكتفى بهذه العبارات والأكليشيهات المحفوظة مع المكسور نفسياً، كم من الأبناء ينتحرون لأن الأب لم يبادر بالإسعافات النفسية الأولية؟ كم من الآباء يتعرّضون للخرف المبكر ويدخلون قوقعة الاكتئاب وشرنقة الإحباط، نتيجة أن الابن قد أخذته دوامة الحياة ولم يُجهّز أجزاخانة البيت بحقيبة الإسعافات النفسية الأولية؟ كم مارسنا من قهر وتسلط وتجاهل نفسى على أبنائنا وزوجاتنا وآبائنا وأمهاتنا واكتشفنا بعد الكارثة أنهم كانوا يحتاجون إلى مجرد قرص طبطبة أو كبسولة حنان أو حقنة حوار وإصغاء، كان جرحهم فى البداية يحتاج إلى مجرد ضمادة ضاغطة بسيطة حتى يتوقف النزيف، لكننا للأسف تركناه حتى ذبح «الأورطى» وانفجرت نافورة الدم من تلافيف الروح ومسارات الوجدان ولم يعد مجدياً إلا جراحة القلب المفتوح. فى أبريل المقبل وفى يوم الصحة العالمى وإعلاناً عن اهتمام العالم كله بأهمية الصحة النفسية سيكون الشعار المرفوع يومها «الاكتئاب دعنا نتحدث»!، نعم نحن نحتاج فى زمن اللاتواصل الاجتماعى إلى أن نتحدث إلى بعض وليس عن بعض أو ضد بعض أو نتخانق مع بعض ونشد شعر بعض!!، لكى نخرج ونصعد سالمين من هوة الاكتئاب السحيقة، لا بد من حبل الود والحب لكى نتشبث ونصعد عليه بمساعدة من يقف أعلى البئر ولم يتجرّد من إنسانيته بعد.