ما فعله د. جابر نصار فى قراره الجرىء الشجاع بإلغاء خانة الديانة من أوراق التعامل فى جامعة القاهرة هو خطوة مهمة فى طريق طويل ولقطة فى حلم ممتد اسمه طريق وحلم المواطنة والدولة المدنية الحقيقية، هذا الحلم الذى تصيبنى أحياناً لحظات إحباط بسببه ذكرنى بالصديق الجميل فيليب فكرى، الذى لم ألتق به وجهاً لوجه، ولكنى فوجئت به يرسل لى «بورتريه» هدية رسم فيه العبد الفقير إلى الله. فيليب فكرى فنان تشكيلى كتب كتاباً عبارة عن يوميات قبطى ساخر بعنوان «أنا م البلاااااااادااااى». كتاب موجع برغم ألغام السخرية المتفجرة فيما بين السطور إلا أنها الكوميديا السوداء التى تنتهى ضحكاتها بملح الدمع فى المآقى المنكسرة والحناجر المشروخة، قبطى فى وطن يقول عن نفسه إنه عربى! مسيحى فى وطن إذا أراد أن يجامل مواطنه المسيحى صاحب الفضل عليه مجاملة رومانسية رقيقة عرفاناً بفضله يقول: «ده مسيحى بس طيب». مسيحى فى وطن إذا سألت فيه مواطناً عن الطريق إلى مكان يصف لك الطريق بحيث إذا كان بالطريق كنيسة يقول لك: «ودى لامؤاخذة كنيسة» وإذا كان بالطريق بيت يسكنه مسيحيون أو محل تجارى يعمل به مسيحيون أو ورشة يعمل بها مسيحيون يقول لك: «ودول لا مؤاخذة أربعة ريشة» أو يقول لك: «ودولا لا مؤاخذة عضمة زرقا».. إلى آخر هذه المصطلحات التى تحفر فى الوجدان «جيتو» إجبارياً ومنفى قهرياً يجعل كل قبطى يدخل قوقعته الخاصة ويتشرنق فيها لتصبح له لغته ومفرداته وصداقاته وإحباطاته المغموسة فى سم الإقصاء والصد والأساطير والأوهام. حكى فيليب بريشة فنان كاريكاتير بورتريهات عن قبطى يواجه المجتمع منذ عتبات الطفولة حتى باحة الشباب بدرع الرهبة والخوف مختبئاً داخل صدفة سلحفاة سميكة من كراهية الحميمية التى إن خرج عن النص وتجاسر، وسعى إليها كان رد الفعل «وانت مالك بى يا قبطى.. أنا مابكلمش مسيحيين». منذ حصة الدين فى المدرسة التى تحولت إلى ماتش كورة بين الأطفال المسيحيين إلى أن أجبرهم الناظر على الحضور حيناً حصة الدين الإسلامى مع الأستاذة زينب التى تعاملهم ككفار يجب هدايتهم. وحين تدخل أولياء الأمور لإنقاذ أطفالهم من زينب، أمر ناظر المدرسة مدرس الكيمياء المسيحى بأن يقوم بالإضافة إلى عمله بتدريس الدين المسيحى لهم، فحول الدين إلى معادلات كيمياء، فاشتاقوا إلى لعب الكرة. مروراً بالتقديم فى ناد كروى شهير يرحب به مدربه فى البداية لأنه موهبة كبيرة، ثم يرفضه ذات المدرب بحجة انعدام الموهبة بمجرد سماع اسمه الملتهب بجمرة المسيحية رغم أنه حريف بشهادة كل من شاهده يلعب الكرة. يحكى لنا عن معشوقته على الهاتف التى طرقت على قلبه الطرى وطاردته فى الهاتف فيخجل من ذكر اسمه عند إلحاحها فى التعرف عليه لتتعدى الصداقة مكالمات التليفون حتى لا تغلق السماعة فى وجهه ويُغتال جنين الحب ويجهَض قبل الولادة. نتذوق معه طعم مرارة طفل ومذاق انكساره كفنان محترف وهو يتوجه لتسلم جائزة القدس عربية من جامعة الدول العربية بعد أن وصله إخطار رسمى بفوز لوحته كأفضل لوحة ويجد أنه قد شطب من المركز الأول لمجرد أنه من العيب أن يفوز مسيحى بجائزة تحمل اسم القدس!! جو محموم مسموم كله إقصاء وعنصرية وحراب مسنونة مدببة كلها كراهية وعنف. فى وسط هذا الظلام نجد بقعة ضوء، صديقاً مستنيراً من أيام الطفولة لم يضع حاجز الدين نظارة سوداء على عينيه وتعامل مع بطل اليوميات القبطية الساخرة بمنطق الإنسانية وثقافة ابن نفس الوطن ونفس الأرض ونفس الإحباط ونفس العدو ونفس النكتة التى تقتسم كالرغيف على مهمومين مصابين بنفس المرض المزمن، مرض حب مصر.