مصر مع «عبدالعاطى» مخترع جهاز الكفتة كادت تفقد عقلها، ومع «أبوالمعاطى» نائب خدش الحياء، كادت تُفرّط فى وجدانها، ومع سيطرة الاثنين على المزاج العام، فهى تُهدر كل مخزونها الثقافى التنويرى منذ رفاعة الطهطاوى حتى الآن، مصر أصابها تسونامى ترييف المدينة بقيم التواكل وعشق السحر وسيادة مجتمع الشفاهية وكراهية التفكير النقدى العلمى، فأفرز لنا هذين النموذجين. ما أزعجنى فى موضوع «أبوالمعاطى» أكثر من موضوع «عبدالعاطى»، هو أن إصلاح وترميم كارثة جهاز علاج الإيدز الوهمى من الممكن أن تتم بمؤتمر علمى يفضح ويفند ويشرح نقاط الخرافة اللاعلمية بعرض إحصائيات ونتائج، أما إصلاح واستعادة الوجدان المصرى من أيدى الوهابيين فهو مهمة أصعب وأخطر، أن تستعيد المصرى العاشق لأم كلثوم وعبدالوهاب وحليم ونجيب محفوظ من براثن وأنياب عصابة وسماسرة وتجار الدين هذه مهمة انتحارية الآن، لكنها مهمة مصيرية، مهمة حياة أو موت بالنسبة للمجتمع المصرى، أن تستعيد احترام المصرى للمرأة وتسامحه وسماحته مع المسيحى وانتمائه إلى الأرض ودمعته مع الموال وضحكته مع النكتة، هذا يجب أن يكون مشروعنا القومى المقبل، فما جدوى أن نشق طرقاً ونحفر ترعاً ونبنى خرسانات والوجدان خرسانى متكلس ما زال يعتبر نجيب محفوظ كافراً زنديقاً خادشاً للحياء، «محفوظ» اغتيل ثلاث مرات، الأولى بفتوى «الغزالى»، وبعدها صُودرت «أولاد حارتنا»، الثانية بسكين جاهل أحمق نفّذ فتوى عمر عبدالرحمن، وبعدها صُودرت حياته نفسها وفقدت أصابعه القدرة على الكتابة، والثالثة بصراخ نائب برلمانى تحت القبة بضرورة عقابه على ما اقترفه فى فيلم «قصر الشوق»، فاقداً حتى التمييز بين الرواية والفيلم!، وبعدها لم يفقد نجيب محفوظ شيئاً، بل نحن الذين فقدنا بوصلة التمييز. يجب ألا نُطمئن أنفسنا بأن «أبا المعاطى» استثناء. للأسف فقد بات «أبوالمعاطى» القاعدة، منها من يهمس، ومنها الصامت، ومنها من هو مثله ممن صرخ بما فى صدور كثير ممن افترسهم المزاج السلفى الكئيب المعادى للحياة الكاره للبهجة، الفن يُمثل لهؤلاء السلفيين أصحاب بوتيكات التقوى الزائفة والورع المنافق عدواً وشيطاناً رجيماً، فهو ينافسهم على الوجدان ويسحب من تحت أقدامهم البساط، كلام الفن أكثر سحراً من كلامهم. ألوان الفن أجمل وأكثر بهجة من سوادهم، أنغام الفن أروع طرباً من عديد كآبتهم!!، لذلك هم يعرفون أنهم سيخسرون معركتهم مع الفن إذا لم تنحَز الدولة لهم وإذا أفاق الناس وإذا لم يغتالوا رموزه ويقتلوا عباقرته ويكتموا أنفاسه، لذلك لا تندهشوا من شراسة الحرب ضد الروائيين والشعراء والفنانين، لا تتعجبوا من مطالبات سجنهم ونفيهم والدعوات إلى قتلهم مادياً ومعنوياً، فالفن هو رصاصة الرحمة الأخيرة على خرافاتهم، هو الكلور ورائحة الماورد والنعناع التى ستُنقذ آبار حياتنا من سمومهم، هو الباب الذى سيفتح على مصراعيه للهرب من كهف أوهامهم، فهيا نرقص ونغنى ونرسم ونكتب شعراً وقصة ورواية، هيا نحتفل بنجيب محفوظ ونثبت لهم أنه ما زال حياً، وأن عقلنا ووجداننا ما زالا ينبضان بالعلم وبالحب، رغم «عبدالعاطى» و«أبوالمعاطى».