فى ٢٨ ديسمبر من كل عام، مع ذكرى اغتيال النقراشى باشا، الذى اغتالته يد عصابة الغدر الإخوانية، تنطلق ماكينات الإخوان الإعلامية لتبرير تلك الجريمة النكراء وتجميل صورتهم وتقديم أنفسهم لنا على أنهم ضحايا وأبرياء وأن النقراشى كان الذئب المفترس وهم الحملان الوديعة!! برر الإخوان قتلهم للنقراشى بمبررات كثيرة متهافتة، على رأسها أنه فتح كوبرى عباس على الطلبة ولموقفه من قضية فلسطين!! تعودنا منهم الكذب ولكننا للأسف نمتلك ذاكرة السمك وسرعان ما ننسى ويخرج علينا دعاة المصالحة معتمدين على أننا أقدم شعب وأضعف ذاكرة. كانت قد وصلتنى رسالة منذ فترة من د. هدى أباظة، حفيدة محمود فهمى النقراشى، ترد فيها على هذا اللغط وتلك الأكاذيب، تقول الرسالة: لقد كشف لى ما التبس لدىّ من الأمر عندما سألتنى إحدى الزميلات الفضليات عما إذا كان سبب اغتيال «النقراشى» هو فتح كوبرى عباس، وتساءلت بدهشة عن مصدر هذه المعلومة «الخطيرة»، وسوف أحاول مرة أخرى التوقف عند بعض النقاط على الرغم من أننى لست واثقة إذا كان من المجدى الرد على جميع المهاترات التى وردت فى موسوعة الإخوان، لأنها موجهة لمن عميت بصيرتهم وعقولهم {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور}. إن أسطورة كوبرى عباس المنسوبة لـ«النقراشى» قد فرضت نفسها فرضاً نتيجة للماكينة الإعلامية للإخوان الذين لم يكتفوا باغتيال الرجل فظلوا يطاردون ذكراه العطرة بأكاذيب لا تنطلى إلا على الذين لا يقرأون التاريخ، وهم للأسف كثر، لقد اختلطت حادثة كوبرى عباس 1946 بالأحداث الأخرى التى جرت فى المسرح ذاته بتاريخ 14 نوفمبر من عام 1935 فى عهد وزارة توفيق نسيم الثالثة؛ كما اختلطت بالأحداث الدامية التى وقعت يوم 21 فبراير من العام نفسه (1946) حين تصدت سيارات بريطانية مسلحة لمظاهرات الطلبة بميدان الإسماعيلية (التحرير حالياً)، أما وقائع كوبرى عباس 1946، كما سردتها جريدة الأهرام (وقد كانت جريدة مستقلة، غير تابعة لأى حزب من الأحزاب) الصادرة فى 10 فبراير 1946، أى فى اليوم التالى لهذه الأحداث، فهى تخالف تماماً ما تم الترويج له من قِبل خصوم «النقراشى»، فقد كان كوبرى عباس مفتوحاً لمرور السفن الشراعية، مغلقاً للمشاة؛ ولقد أجبر الطلبة المهندس المختص على إغلاق الكوبرى حتى يتسنى لهم المرور إلى الضفة الأخرى للنيل؛ وقد تصدت لهم قوات الشرطة على الطرف الآخر من الكوبرى، وتعاملت معهم بعنف لم يسفر عنه على الرغم من ذلك مقتل طالب واحد، وقد كانت حالة الوفاة الوحيدة لطالب سقط تحت عجلات سيارة النقل رقم 26572. وقد سجل عبدالرحمن الرافعى -وهو بالمناسبة كان ينتمى لحزب مغاير لحزب «النقراشى»- أحداث هذا اليوم فى كتابه فى أعقاب الثورة المصرية. ثورة 1919 (الجزء الثالث، ص187 و188). بل ولقد أيدت رواية «الرافعى» شهادة أحمد عادل كمال فى كتابه «النقط فوق الحروف.. الإخوان المسلمون والنظام الخاص»، وهو أحد أعضاء الجهاز السرى لجماعة الإخوان المسلمين، رغم التناقض الواضح بين الألفاظ المنتقاة؛ فهو يقرر أنها كانت مذبحة لم يقتل فيها أحد، والواقع فإن مذكرة الأمن التى صدرت فى أعقاب هذه الأحداث قد حددت عدد المصابين من الطلبة والأهالى الذين اندسوا فى الإضراب بـ125 شخصاً، مقابل إصابة 46 من رجال البوليس. ولقد بادر «النقراشى» بتقديم استقالته بعدها مباشرة، أما الحديث عن موقف «النقراشى» من دخول حرب فلسطين فهو يطول، نكتفى بالقول إن «النقراشى» كان المسئول العربى الوحيد الذى كان رافضاً لدخول الحرب لأسباب عدة، لعل أهمها أنه كان معنياً فى المقام الأول بالقضية المصرية. ولقد كان قرار الهدنة الأولى فى هذه الحرب صادراً عن الأمم المتحدة، ولقد انصاعت له جميع الدول العربية التى كانت جيوشها مشاركة فى الحرب، ولعل السبب الرئيسى الذى دفع بمصر لقبول هذه الهدنة هو الضغط البريطانى، حيث هددت بريطانيا بقطع الوقود عن مركبات الجيش المصرى، وهو ما كان يهدد بتوقف العربات فى قلب الصحراء، والحديث عن اجتماع فايد فى 10 نوفمبر، فإنه لم يرِد إلا فى حديث أحد مؤرخى الإخوان الذى قال إنه لا توجد وثائق تدعم هذا الزعم، غير أنه واثق أن هذه الوثائق سوف تظهر (بقدرة قادر) يوماً ما!! وغنىّ عن التعقيب على ما فى هذا الكلام من استهانة بأبسط قواعد البحث العلمى، بل بالعقل. وتاريخ «النقراشى» نفسه كفيل بدحض مثل هذه الأكاذيب: فقد كان معلماً فى الوقت الذى انخرط فيه فى الحركة الوطنية؛ فقد كان أحد أبطال ثورة 1919، بل أحد أعضاء جهازها السرى الخطير، الذى وجد نفسه يوماً قاب قوسين أو أدنى من حبل المشنقة، كما كان قبل انضمامه الرسمى لحزب الوفد أحد أهم منظمى الطلبة، حتى اتهمه الإنجليز بأنه كان المحرض الأساسى للطلبة على إضرابهم فى عام 1922 (يراجع فى ذلك الكتاب المهم للدكتور سيد يوسف عبدالله)، وفى الواقع فإننى لا أدافع عن رجل أشرُف بأن أكون حفيدته، فتاريخه ليس ملكاً لى، بقدر ما أدافع عن حق أبناء هذا الوطن فى أن يعرفوا تاريخه غير مشوه، وأن يعتزوا برموزه الذين قدموا حياتهم رخيصة له، وبقدر ما أدافع أيضاً عن مبدأ ضرورة الحفاظ على ذاكرة الأمة.