كنا فى الماضى نغنى إسكندرية ماريا وترابها زعفران، فصرنا الآن نغنى إسكندرية عسلية وترابها طالبان!!، طردت الإسكندرية الغادة ماريا والخواجة ينى والشاعر كفافيس ومعهم بترو البقال ليسكن وجدانها برهامى والشحات والمقدم وعسلية، صارت الأرض هناك لا تتعطر بتراب الزعفران وباتت ماريا لا تتقلد فى جيدها عقد الفل والياسمين، بل صارت الأرض تتخثر بالدم وماريا تقدم عنقها للنحر!!، عسلية المسلم يذبح لمعى المسيحى، تاجر الخمور، فى وضح النهار وعلى الملأ طمعاً فى خمر الجنة، وقبله فجر مجاهد كنيسة القديسين طمعاً فى مجاورة القديسين فى الجنة، وقبلها كانت طعنة فى أوتوبيس قالوا عن صاحبها مجنون، كما يقولون الآن عن عسلية!، تريفت الإسكندرية المدينة الكوزموبوليتان ذات الموزاييك العالمى وصاحبة المعدة الثقافية الهاضمة لكل الحضارات، أصيبت تلك المعدة بالتلبك السلفى والقرحة الوهابية، فصارت تتقيأ كل ما هو مختلف ومبدع وخارج عن القطيع، الآن يبكى الإسكندرانى سيف وانلى فى الملكوت، خائفاً على راقصات الباليه اللاتى رسمهن فى لحظات تحليقهن الملائكى على خشبة المسرح، ومعه يولول محمود سعيد، وهو يرى جحافل التتار تمزق بمخالبها الدامية لوحاته بتهمة خدش الحياء، يوصينا بيكار من نافذة السماء حافظوا على أنامل فلاحاتى الرقيقة الدقيقة من البتر!، يتساءل سيد درويش لماذا توقف عمال البناء عن الغناء فى الإسكندرية، كانت الإجابة التى شقت السماء، لأن سماسرة الأبراج البرابرة بعد أن باعوا ضمائرهم سرقوا حناجرهم!، يزداد توتر يوسف شاهين وتزداد نبرة تهتهته، وهو يجفف دمعه بعد أن أجهض الحلم وأوصد الباب أمام فيلم ثالث عن معشوقته الإسكندرية كمان وكمان وكمان، الإسكندرية لم تعد الإسكندرية، لم تعد تبلل خصلات شعرها قطرات الندى وأمواج البحر، فهى قد تنقبت، حتى تماثيلها تنقبت، وقلاعها صارت قاعات أفراح وأرصفتها ساحات ذبح سلفية!، سرى السم الوهابى فى خياشيم أسماكها ونخاع عشوائياتها ومنابر مساجدها، أصبح أجمل كورنيش فى الكون هو أقبح ثعبان ملتو يصدر فحيح الميكروباصات ولا يخلع فى بياته الشتوى رداء القمامة المكدسة على كاهله، الكورنيش الذى كان مفتوحاً على السماء والكون، المطل على بلاد النور على الضفة الأخرى، أصبح سدًّا بيننا وبين أوكسجين العقل، أصبح مساحة عزلة بعد أن كان جسر نور، استقبلت بكائيات إسكندرانية ممن رحلوا ومن ذاقوا طعم الإسكندرية المحلى بعنب جاناكليس، وفى مقدمتهم بكائيتى الشخصية على معشوقتى القديمة، وحضن غرامى المزمن التى تسربلت بالأسود المقيت الكئيب، غادرتها ألوان البهجة منذ أن غادرتها قبلة الألفة على شفاه المختلف والآخر وصارت قبلة الملتزم المتصلب المتعنت المتكلس، كاره المختلف والآخر، كم أحببت الإسكندرية، وكم أنا خائف عليها، الإسكندرية التى تغتسل بالمطر فيغتسل قلبها بالمحبة ويعود الأبيض الناصع بعد أن تذيب قطراته كل غضب وتصهر كل كراهية، الإسكندرية التى أهدانا رحمها الخصب أنجب وأجمل أبنائك يا مصر صارت مرتعاً للضباع، ومشتلاً للصبار، ومخزناً للبارود، الإسكندرية تنام على وسادة ديناميت، عنقها النفرتيتى الساطع بين ساطور جشع رأسمالى يلتهم الفقير وينشر وينثر القبح ومنجل انغلاق سلفى يصحر العقل والعاطفة وينشر ويبذر الكراهية، أكاد أسمع الشاعر كفافيس الذى عشقك يا إسكندريتى المبتلاة المبتغاة يقول: ما الذى ننتظر ونحن محتشدون فى الساحة العامة؟ من المنتظر وصول البرابرة اليوم. لم لا يحدث أى شىء فى مجلس الشيوخ؟ لماذا يجلس الشيوخ هناك دون سن القوانين؟ لأن البرابرة سيأتون اليوم. فأى قوانين يسنها الشيوخ الآن؟ فعندما يصل البرابرة، سيتولون سن القوانين. لماذا ينهض إمبراطورنا مبكراً هكذا؟ ولماذا يجلس عند البوابة الرئيسية للمدينة؟ على العرش، فى أبهة، وهو يلبس التاج؟ لأن البرابرة سيأتون اليوم. والإمبراطور ينتظر لاستقبال قائدهم.