ألف مبروك أستاذى العظيم على تكريم الجمعية الملكية البريطانية. كنا نخطو خطواتنا الأولى المتعثرة فى كلية الطب ونتلمس أى طاقة ضوء تهدينا وسط حيرة حشود الطلبة وركام الكتب وتراب المعامل وفورمالين المشرحة وتأوهات المرضى وإذا بيد الأب والصديق د. محمد أبوالغار، ابن البلد الخواجة، المصرى الفلاح حتى النخاع، المتحرر فكراً والمتمرد عقلاً ومنهجاً، تحس أنه يرتدى الجلباب تحت البدلة البراند، وأن زرقة عينيه لم ولن تخدعك عن ملامحه الفرعونية، كنا فى امتحانات الشفوى نتقاتل كى نجلس أمامه بابتسامته وحنوه وعلمه وتشجيعه وإيمانه بأن كل شاب فينا «فيه أمل ولازم يبقى عنده أمل»، كانت كل الأسر الطلابية تتمنى أن تحمل اسمه، إنسان بسيط لا يحمل عقداً أو كلاكيع أو ذرة استعلاء أو غرور، ابتسامته كانت هى الحضن والطبطبة والطمأنينة، وتشجيعه كان الحافز والوقود ودفعة ودفقة الأمل والطموح، بعد تخرجنا وعملنا، كان كل يوم يعلمنا جديداً بدون أن يمسك بعصا وهراوة الأستاذ، حتى وهو منهك من أثر تقدم السن علّمنا ألا ننحنى وألا نستكين ووقف أمام سلطة متوحشة غاشمة بصدره العارى من أى دروع، ونادى باستقلال الجامعة ونجح وانتصر. «أبوالغار» كل يوم كان يعلمنا درساً جديداً، إنه الأستاذ بكل معنى الكلمة، ولا أنسى رسالته الكاشفة تعليقاً على ما كتبته عن عنصرية أقسام النساء والتوليد فى جامعاتنا ضد الأقباط، سأذكّركم بنص الرسالة لتعرفوا من هو «أبوالغار» ابن الاستنارة المصرية بكل ملامحها العقلانية الجسورة، كتب لى فى رسالته: «العنصرية البغيضة ازدهرت فى العقود الماضية التى سيطر فيها تيار الإسلام السياسى على مقدرات وعقول الكثير من المصريين، وللأسف الشديد فإن العنصرية أصبحت موجودة فى كل مكان حتى فى الأوساط الأكاديمية التى من المفروض أن تكون بتفكيرها وعقلانيتها بعيدة كل البعد عن ذلك. من المعروف أن جميع أقسام أمراض النساء والولادة فى جميع الجامعات المصرية لا يوجد بها عضو تدريس مسيحى، وذلك لسببين: الأول أن هناك تمييزاً واضحاً من بعض الأساتذة فى الامتحان الشفهى ضد المسيحيين، مما يحرمهم من الحصول على مركز متقدم فى امتحان البكالوريوس، وحتى الذين يحصلون بصعوبة على مركز معقول يمكّنهم من الحصول على وظيفة نائب يخافون من سوء المعاملة واحتمال عدم النجاح فى الدراسات العليا، وربما يقوم البعض بإدخال الرعب فى قلوبهم إن هم فكروا فى ذلك. وخلال عملى منذ 1969 كمدرس فى طب قصر العينى تم تعيين نائب واحد مسيحى، وقد حاولت طمأنته ومساعدته بكل الطرق، ولكنه طفش إلى كندا. هناك حلول سريعة لهذه المشكلة والموجودة أيضاً فى أقسام أخرى، ولكن ليس بنفس الحدة، وهى إلغاء جميع امتحانات الشفهى واستبدالها بامتحانات حديثة بأرقام سرية. إذا تم ذلك سوف ينعدل حال نتيجة الامتحانات ليس فقط لصالح الأقباط وإنما أيضاً الفقراء والذين ليس لهم ظهر. وهو أمر من الصعب جداً تطبيقه، لأن عدد المستفيدين من وجود امتحان شفهى فى كل مراكز القوى خارج وداخل الجامعة كبير جداً. أما الأمر الأصعب فهو التخلص من العنصرية بكافة أشكالها عند المصريين، وهو أمر مستحيل فى ظل الأفكار القاتلة التى يبثها الإسلام السياسى فى عقول وقلوب المصريين. وبالمناسبة نجيب محفوظ باشا هو أول رئيس مصرى لقسم النساء، وأنا لم أعاصره لأنه أحيل إلى المعاش قبل أن أولد، ولكن تاريخه العلمى معروف داخلياً وعالمياً، وأبحاثه منشورة فى كبريات المجلات العلمية فى ذلك الوقت، ومتحف نجيب محفوظ فى قصر العينى ما زال مادة تعليمية متميزة للتدريس للطلبة». هذه كانت رسالته وما زالت رسالته حتى بعد أن اعتزل العمل السياسى.