تصدرت صورة ذبابة الدورسوفيلا شاشة الاحتفاء إلى جوار الفائزين بجائزة نوبل فى الطب هذا العام، وكأن لجنة التحكيم تشكرها على دورها الجليل فى خدمة العلم، ففى الأبحاث الأولى فى بداية الثمانينات استشهد عدد ٩٠٠٠ ذبابة فاكهة فى المعمل حتى يصل العلماء الأمريكان الثلاثة إلى اكتشاف الجين المسئول عن الساعة البيولوجية أو الإيقاع المسمى circadian rhythm، العلماء هم جيفرى هول (مواليد نيويورك 1945)، ومايكل روزباش (أوكلاهوما 1944)، ومايكل يونغ (ميامى 1949)، وقصة هذا الاكتشاف تصلح عملاً ملحمياً درامياً بامتياز، وفيه الكثير من الدروس المستفادة حتى لمن يعملون خارج الحقل العلمى، فهم يعملون يداً واحدة فى فريق مترابط متجانس، لم يصرخ أحدهم: هذا سرق بحثى، ولم يكتب واحد منهم تقريراً فى الآخر نتيجة اختلاف مكانة أو مكان أو دين برغم أن بينهم يهودياً مهاجراً من بطش النازى وهو «روزباش»، العمل بدأب وجهد ومثابرة وعرق منذ ١٩٨٢، يعنى ٣٥ سنة لا ينامون فيها لاكتشاف جين تنظيم النوم!!، الدرس المهم أن هؤلاء العلماء سواء من يعمل فى الوراثة أو الفسيولوجى أو أى من العلوم الأساسية الطبية التى يكره طلبة الطب الانتماء إليها والعمل فيها لأن مكانتها متدنية عن الجراحة والباطنة!، هؤلاء فقط هم من تكرمهم «نوبل» وليس جراحو العمليات المشاهير السوبر ستارز، لأنه ببساطة تقدم الطب مرهون بجهد هؤلاء القابعين فى المعامل، درس مهم لنا لكى نهتم بالعلوم الطبية الأساسية مثل الفسيولوجى والكيمياء الحيوية والوراثة والباثولوجى.. إلخ، والتى يحصل على وظائفها الجامعية المتأخرون فى الترتيب العام!!، قصة الاكتشاف مثيرة مثل أفلام الأكشن، ثلاثة علماء يطاردون سراً ولغزاً ويحاولون فك شفرة إيقاع التفاعل بين الجسم والليل والنهار، ولماذا يعتبر الحرمان من النوم أبشع أنواع التعذيب التى عرفتها البشرية!!، فى البداية عزلوا وتعرفوا على الجين الضابط لهذا الإيقاع وتلك الساعة وآلية عمله هى أنه يراكم بروتيناً بالنهار ويكسره بالليل فى انضباط صارم، جاءت خطوة تعريف الجين والبروتين وميكانزم العمل، فمجرد العزل لا يعطى البحث قيمته الكبيرة والمؤثرة، الجين المعزول المسئول عن ضبط الساعة البيولوجيّة سمّوه «بيريود» بمعنى الدورة أو الزمن، كما أطلقوا على البروتين الذى يصنعه اسم «بير»، ويتراكم «بير» خلال النهار، فيوقف عمل «بيريود»، وفى الليل يحدث العكس ويتفكك البروتين «بير» تدريجياً، فيتلاشى تأثيره فى الجين، وهكذا يكتمل الإيقاع واللحن البيولوجى، جاءت المعضلة الثانية وهى أن الجين فى نواة الخلية والبروتين خارج النواة فكيف يتم الاتصال والتواصل اللاسلكى بينهما؟!، الحل فى المعمل، توصل العلماء إلى المكوّن الجينى المسئول عن حركة التنقّل بين الجين والبروتين، وأطلقوا عليه «تايمليس» أى «ما لا زمن له»، لأنّه يعمل على استدامة عمل الساعة البيولوجيّة، عبر حركتَى التراكم والتكسير أو التفكك وبشكل مستمر لا يهدأ، بالفعل هى دراما، قصص العلم مثل قصص الحب وفيها أيضاً إثارة أفلام المطاردات الأمريكية، عشق العالِم لمعمله وفكرته التى يطاردها وتراوغه، والسباق مع الزمن حتى لا تفلت منه أو يسبقه أحد إليها، المجد للعلم، سيظل هو من ينعم علينا بأسباب التقدم والحضارة، البداية حلم وقوده الحرية وعلامات الاستفهام التى لا سقف لها ولا خطوط حمراء ترسم حدودها، والأهم لا أحد يجهض هذا الحلم باسم التعدى على المعلوم بالضرورة، فهناك دائماً كل يوم معلوم ومن الضرورى أن نغيره.