فعلت دار مصر العربية للنشر خيراً بتوفير كتب المفكر والمجدّد العراقى عبدالرزاق الجبران فى مصر، فنحن فى هذا التوقيت بالذات نحتاج إلى مثل أفكار الجبران لكى نُحرّك المياه الراكدة الآسنة لفكرنا المتزمت التقليدى الذى أسسه ورسّخه سماسرة الدين الفاشيون، «الجبران» فضلاً عن جرأته الفكرية وطرحه الجسور المنطقى يمتلك أسلوباً أدبياً يتفوق به على الكثير من الشعراء، بلاغته من نوع خاص تحس معها بأنك تستمع إلى سيمفونية فى أوبرا فيينا، أحياناً يكون النحت اللغوى واللفظى صعباً بعض الشىء على البعض، لكن الكتاب الجيد كالمعشوقة الفاتنة لا يمنح نفسه للقارئ منذ الوهلة الأولى ودوماً يمنحه زاوية رؤية جديدة ولون طيف جديداً فى كل قراءة، الكتاب محاولة لاستعادة الوجه الإنسانى للدين من ركام التفاسير الكهنوتية التى جعلت من الدين ديناً مختلفاً فاقداً للمنحى الإنسانى، جاعلاً الإنسان الذى هو غرض الدين، خادماً لتفسيرات المشايخ حتى لو حذفت وجوده الإنسانى وشطبت هويته وجعلته مجرد آلة فى خدمة مفاهيم مثل الجهاد والقتل والسبى والولاء والبراء.. إلخ، من ضمن تلك الكتب التى أعيدت طباعتها كتاب «انقلاب المعبد»، ومفتاحه جملة عبقرية لعلى بن أبى طالب هى نبوءة أكثر منها عبارة، الجملة تقول «ولُبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً»!، نحن لبسنا ديننا بالمقلوب، والوجه الذى نعيش به الآن من رداء الدين هو الوجه الذى اخترعه ونسجه لنا الفقهاء ورجال الدين، وليس الوجه الأصيل الذى أراده لنا الله أن نلبسه ونواجه به بعضنا البعض، الكتاب من النوع الذى تتكرّر فيه الفكرة مثل اللحن الأساسى الذى عليه تنويعات موسيقية ذات إيقاعات مختلفة، لذلك سأقدم للقارئ بعض الاقتباسات السريعة والجمل الموسيقية التى لا تغنى عن حضور الأوبرا المقروءة: الحقيقة ليست بعيدة.. الأسماء تبعدها. كسبنا المصلين وخسرنا الصلاة، ارتفعت المعابد وهبط الإنسان. هل هو دين المعبد الأرستقراطى الذى جوع الناس، أم دين المعبد الذى يقدّم أحجاره لدفء الناس. ليست المشكلة أن الإنسان خرج على الدين، المشكلة أن الدين خرج على الإنسان. بدل أن يرفع الدين عبء الحياة، أصبح هو بذاته بنسخة الكهنة عبئاً على الإنسان. دمار الإسلام ليس مسئولية كيد الآخر كما تصر الجوامع والحركات الأصولية، وإنما مسئولية خيانة المسلمين، فالإسلاميون اليوم هم مَن شوه الإسلام لا العلمانيون. العودة لسلال الأنبياء وورودها ليست بالعودة إلى سلاسل الكهنة وقيودها. الدين ومذهبه ورجالاته غدوا أهم من الله فى بنية العلوم الدينية، ولكن دون تصريح!!. الناس أخذوا المعرفة الدينية بأنها الدين والإسلام، بينما كانت تلك المعرفة هى الحجاب الأساس للإسلام. أزمة التجديد تاريخياً هى قبل كل شىء أزمة كذبة مفهوم التجديد عينه، وأزمة مخافته أيضاً. القديم من التراث هو طاغية لا يقبل الاعتراف بكذبته وخطاياه. التجديد بقى فى طبقة من طبقات الدين أو التراث، أما الطبقات الأعمق فالأعمق حتى الأسس الممثلة لجذور الانحراف، فهذا ما بقى بعيداً عن يد التجديد. لم يكن همّ النبى كيف يتعلم الإنسان علماً، بقدر ما كان همّه كيف يتعلم أن يكون إنساناً. دين الله ليس معابده، وإنما القيم التى أودعها فى الذات البشرية نفخة منه، والتى باستيقاظها، يغدو الفرد إنساناً. هل الإنسان هو قربان الدين؟. على المعرفة الدينية أن تبحث عن الله فى الإنسان، حضور الله بالإنسان، الدين موجود فى الإنسان وليس فى الكتب.