هى ليست مجرد رواية، بل طعنة رمح فى قلب المجتمع الذكورى القاسى المتلذذ بقهر الأنثى، طعنة وجّهها الروائى الجزائرى الكبير واسينى الأعرج بروايته الأخيرة «ليالى إيزيس كوبيا» وهو الاسم الذى وقّعت به الأديبة مى زيادة ديوانها الأول «أزاهير حلم»، لقد عرّى واسينى هذا التعالى الذكورى وكشف عورته وخلع القناع عن قبحه الاجتماعى ودمامته العاطفية، قبح يسكن ملامح المثقف العربى، ودمامة تتوغل تحت جلده مهما ادعى من تنوُّر ومهما رطن من لغات أجنبية، فالحقيقة ستظل الغيرة من تاء التأنيث، فهى لغته الوحيدة التى يجيدها ويتقنها، مى زيادة التى اقتحمت الحياة الثقافية كالإعصار بموهبتها الجامحة وثقافتها الموسوعية ولغاتها المتعددة وتفتحها المستوعب لكل ألوان الطيف الثقافى، ذهبت ضحية خيانة الأهل والأقارب ونذالة الأصدقاء والمثقفين، تعاملوا معها كالضباع، حتى مَن كان يحضر صالونها من كبار المثقفين، صدّقوا جنونها، بل وروجوا له وتركوها بدون حتى سطر واحد فى مقال منصف، يجذب واسينى الخيط الروائى بلقطة عبقرية حين بدأ روايته بالبحث عن مخطوط مفقود كتبته مى زيادة أثناء إقامتها الجبرية فى مستشفى العصفورية للأمراض النفسية بلبنان، بعد رحلة البحث التى تشبه الروايات البوليسية، ونجاحه فى الحصول على المذكرات نبدأ معه قراءة تلك الوثيقة الكاشفة المغموسة فى دمع الشجن وملح الضنى، مَن أودعها جحيم المستشفى هو ابن عمها جوزيف حبها الأول المجهَض، اصطادها وهى وحيدة وشاركه المؤامرة أقارب مى الذين حجروا عليها حتى يغتصبوا الميراث، عاملها جوزيف بكل قسوة وشراسة، كذب عليها وخدعها واستدرجها، كانت وحيدة فى مواجهة غابة تفترس أى ياسمينة أنثى تتفتح وتنشر عطر الثقافة وأريج التحضر والحداثة، غابة تقصقص جناح أى فراشة امرأة تحاول التحليق فى أفق البهجة، مات الأب والأم وفقدت الحضن، رحل جبران فمات الحب، اكتشفت أن العقاد كان يريدها جارية وأن طه حسين باعها وأن سلامة موسى هجرها، حتى الرافعى المجنون بها لم يسأل عنها، أيقنت أن برد الداخل أقسى وأكثر وحشة من ثلوج لبنان، وأن العزلة موت بالتقسيط، الخطوط المتوازية والمتقاطعة فى الرواية صنعها وشكّلها واسينى الأعرج بحرفية ومهارة فنان أرابيسك متفرد، خط حبيبة النحات رودان التى عاشت نفس مأساة مى ورسائلها المتبادلة معها، خط مريضة العصفورية التى شفاها الحب، خط الأطباء والممرضات ما بين فريق واثق من رجاحة عقلها وفريق يحذر من خطورة جنونها، الرواية خط يتصاعد نحو ذروة قدَر إغريقى محكم، تساق أو تسوق نفسها إلى حتفها، تصر على الموت والدفن فى مصر برغم صقيع هجران الأصدقاء المدعين، يقول واسينى: «جنونها المفترض جعل الكثير من أصدقائها أو مَن ظنتهم كذلك، ينقلبون ضدها، وكأن الجنون جاء ليُرضى أعماق جماعة مريضة لا ترى فى المرأة إلا أداة متعة لا اعتبار لها، كل ما كان يبدو صداقة فى الخارج كان يخفى عقداً ذكورية لم تمحُها للأسف لا الحداثة ولا الفكر التقليدى، أفظع عقوبة أن يُسرق من الإنسان حقه فى الوجود». مى لم تكن مجنونة، بل كانت موجوعة، صرخت: «منذ البداية كنت أدرك أن صراعى سيكون كبيراً مع رجال شاخوا قبل أن يكتبوا، وُلدوا مخرَّبى الأدمغة فى غمار حداثة أكبر منهم لأنهم رفضوا كسر كل معوقاتهم الداخلية، كلهم بلا استثناء، صنّاع الحداثة، كلما تعلق الأمر بامرأة مزقت الشرنقة مقابل ثمن غال دفعته من أعصابها وراحتها، أخرجوا سكاكينهم، أزمة الحداثة العربية امرأة، هزيمة الخروج من التخلف امرأة أيضاً»، بالرغم من ذلك لم تنتحر: «لا أحب الانتحار، لا أكرهه فقط، لكنى أعتبره هزيمة، أسوأ ما ينتاب الإنسان من قوة ضعفه، إعلان صريح عن الفشل الكبير، لحظة تسليم حياتنا الثمينة لقدر أعمى». أكثر ضربات مطرقة القدر على رأس مى أتت من خطئها القاتل فى تقدير وتقييم أصدقائها من المثقفين التقدميين سياسياً المتخلفين اجتماعياً: «كل مَن ابتسمت لهم حوّلوا الابتسامة إلى إعلان حب، تصحر فى أعماق الإنسان العربى، وحشته الأساسية امرأة لم يحسم معها حساباته الحياتية... سأموت ويفتح كل منهم علبته السرية ليجعل من الحبة قبة، من صباح الخير إعلاناً عن حب، ومن اللمسة حباً مجنوناً على سرير اللذة». أكدت هذا المعنى فى خطبتها الأخيرة فى منتدى الويست هول: «لقد تربى المثقف فى شرقنا الجريح على كل وسائل النفاق التى تضمن استمراره، استطاع أن يوائم بين تقاليد الرعب الآتية من جوف الزمن الأسود وقشور الدين الثقيلة بشكليات مرهقة، وحداثة وُلدت معطوبة من الأساس»، وتستكمل إدانتها بقولها: «لقد صرخت وحاولت أن أنقل غرباً حيوياً ومفيداً وعقلانياً نحو بيوتنا ونسائنا، لكنى أدركت أن المسافات الضوئية لا تُسد بقرار أو برغبة، المرأة التى فتحت عينيها على الاستعباد ستبدو لها الحرية جريمة فى حقها، والرجل الذى رضع القوة والجبروت وسلطان الذكورة من ثديى أمه لا يمكنه أن يكون حراً إلا بكسر قيد قرون الظلام التى يجرها وراءه دون أن يراها، الشرقى يريد كل شىء جميل بلا ثمن أو تعب». صرخت قبل أن تموت ويمشى فى جنازتها ثلاثة أشخاص فقط: «ياااه كم من الحنين راح هباء، وكم من شوق أخطأ طريقه، وكم من سعادة أُجّلت حتى شاخت». مى زيادة كل جريمتها أنها وُلدت أنثى وطمحت إلى أن تكون كاتبة ومبدعة فى عالم يعانى من عقدة حواء ومجتمع يخدع المبدعات بالتحرير بينما يقيدها ويحصرها فى السرير، تحية إلى واسينى الأعرج، هذا الكاتب الجميل الذى جاء من تلمسان ليكتب روايات هى أقرب إلى الألحان، تحس مع رواياته أنك تعيش الموسيقى مقروءة وترى اللوحة مسطورة، هبط قديس تلمسان أرض الرواية العربية فمنحها البهاء ومنحنا المتعة.