ربع قرن على وفاة المبدع الرائع وأنشودة البساطة الشجية والمتواضع النبيل يحيى حقى، ربع قرن وما زال يمنحنا الدرس تلو الدرس. الدروس التى نتعلمها من يحيى حقى كثيرة لا تُحصى، عشقُ اللغة واعتبارها حجارة بناء الهرم الإبداعى المتوازن الراسخ المتين، بدون التعمق فيها وميزانها بميزان الذهب والوسوسة فى اختيارها وترتيبها وترابطها وجرسها، يصبح الكاتب بمثابة العارى البلبوص فى ديفيليه الردنجوت! عدم ترفُّعه عن دراسة بلاغة وجمال اللغة العامية، انظر إلى ما كتبه عن رباعيات جاهين، الإمساك بتلابيب التراث والتعمق فيه حتى الثمالة إلى جانب التبحر فى الثقافة الأجنبية وإتقان لغاتها وبنفس درجة الحب والشغف. الكاتب الحقيقى لا يسكن برج اللغة والحروف العاجى فقط، بل لا بد أن يتذوق فنون الرسم والموسيقى والنحت والمسرح والعمارة، كاتب قصة سكنه فنان تشكيلى، لوحاته القلمية وبورتريهاته هى بمثابة قصص ضلت طريقها إلى خانة المقال، لكن أهم درس فى رأيى الشخصى علمه لنا هذا الإنسان العظيم قبل المؤلف العظيم هو متى تضع القلم وتكف عن الكتابة وتحيل نفسك إلى المعاش فى اللحظة المناسبة؟ كلنا يتذكر جيداً متى أمسك بالقلم وكتب، ولكننا ننسى جميعاً ونتناسى لحظة الكف عن الكتابة ووضع القلم جانباً والامتناع عن ممارسة الإبداع لأن جذوة وشرارة الفن قد خبت وبهتت وبدأت فى الأفول، إنها تحتاج إلى شجاعة مقاتل، وبالرغم من مظهر يحيى حقى الوديع الذى كان لا يحب الاشتباك فى معارك ثقافية دامية، فإنه اتخذ قراره بشجاعة محارب الساموراى، بنفس درجة حرارة الكاتب اليابانى الشهير يوكيو ميشيما الذى بعد أن كتب ثلاثيته البديعة انتحر فى مشهد درامى فاجع، مثل هيمنجواى الذى تساءل بعد «العجوز والبحر» وبعد أن حصل على أهم جوائز الدنيا وشهرة نجوم هوليوود: «ماذا سأفعل بعد الستين؟»، وأطلق الرصاص على نفسه! يحيى حقى لم ينتحر جسدياً، بل نستطيع القول، بوجهة نظرنا المصرية التى تجيد خداع النفس، إنه انتحر قصصياً بعد سن السادسة والخمسين، لا يكاد أحد يصدق أنه فى هذه السن المتوهجة يعلن يحيى حقى، معلم أجيال القصة القصيرة المصرية الحديثة ومكتشفهم الأعظم، أنه لم يعد لديه شىء يضيفه! أعلن أن معين الفن القصصى عنده قد نضب، يا لها من شجاعة، فهو الوحيد فى دنيا الأدب العربى الذى امتلك شجاعة الاعتراف، رغم أننى على ثقة من أنه كان من الممكن أن يعطى أكثر وأكثر، ولكنه الاعتزال وأنت فى القمة، وأنت فى مستطيل الفن الأخضر يهتفون باسمك لا تنتظر ضربك بالحجارة حين تخونك المهارة ويخدعك الجسد. بعد إغلاق مجلة «المجلة» والمجلات الثقافية الأخرى فى زمن السادات توارى يحيى حقى وبكل ذكاء، واختار اعتزال كتابة المقالات على مراحل، نفى نفسه بنفسه، وحين أرسل إلى الأهرام مقالاً ومُنح مكافأة ضخمة اعتذر قائلاً: أنتم تشتروننى ولا تشترون المقال! قرر الكتابة فى جرائد ضعيفة التوزيع، بل نستطيع أن نقول منعدمة التوزيع، مثل «التعاون» و«المساء»! ولولا العظيم المخلص الناقد فؤاد دوارة الذى جمعها بدأب وحب كان سيصبح مصير تلك المقالات مفرمة الروبابيكيا، كل من كان يسأله فى حوار أو لقاء: لماذا توقفت عن الكتابة؟ كان يرد عليه ببساطته الآسرة وصوته الهادئ الوديع: «ما عادش عندى حاجة أقولها»! متى يتعلم كتّاب مصريون كثيرون، يسوّدون الصفحات بثرثراتهم الرديئة، درْسَ يحيى حقى البليغ الذى جعلنى بعد ربع قرن من وفاته أنحنى له احتراماً وإجلالاً، وأقول له لقد عشت وأنت ميت أفضل من كثيرين ماتوا وهم أحياء؟!