جرّب أن تغلق على نفسك باباً وتتعرى على الورق وتراهن نفسك على كتابة كل تفاصيل حياتك بصدق وترسم ملامح البورتريه الخاص بك بلا مساحيق تجميل، ترسمها من «باليتة» ليست بها ألوان صناعية، ألوانها ألوان الطيف، فرشاتها مغموسة فى الطمى والدم ومندّاة بشرارة من البرق وقبس من الريح. فى شرقنا العربى حتماً ستفشل، وبعد أن تكتب ستُلقى كل ما كتبت فى سلة القمامة ثم تحرقها، رغم أنك كنت وحيداً فى غرفتك ولن يطلع عليك إنسان، ولكنها «فوبيا» مواجهة النفس على الورق، لذلك لا أُقبل كثيراً على قراءة السير الذاتية للكتّاب العرب وآخذ حذرى دائماً من «بوتوكس» المثقف العربى الذى يحقن به ملامح تجربته فتصير تجاعيد الروح مجرد خدعة جميلة مشدودة. نجحت بعض السير الذاتية المصرية القليلة فى الإفلات من أسْر التمجيد الشخصى والفصام الاجتماعى ومداهنة الشارع وغزَل الأغلبية، منها ما صدر منذ سنوات طويلة، د. لويس عوض، ومنها ما صدر حديثاً مثل سيرة الكاتب الكبير محمد سلماوى.. أصارحكم: كان لدىّ نفس التوجس، ولكن سلماوى كسر الحاجز وأذاب الجليد من أول سطر، فالقارئ مع كتاب سلماوى «يوماً أو بعض يوم»، الصادر عن دار الكرمة، يخترقه شعاع الصدق منذ اللحظة الأولى وبدون بروتوكول، فالكاتب لا يجعل من طفولته ملحمة عبقرية، فهو يعترف بانطوائيته وبأنه ليس «ألفة» الفصل، ويحكى عن تجربته الجنسية الأولى مع الشغالة. ومع بداية المراهقة لا يخشى أن يخبرنا عن فترة حيرته وإلحاده! هو يكتب السيرة الذاتية لا بطريقة الـ«كارت بوستال» السياحى، ولكن بطريقة «فان جوخ» الذى كان يرسم حذاءه المرتّق وكرسيه الممزق وحجرته المهجورة وغليونه البائس بألوانه التى أحياناً يسكبها على اللوحة بسُمكها وحرارتها وطزاجتها وطراوتها ووحشيتها وبدون شعيرات الفرشاة المهذبة! ثراء رحلة محمد سلماوى كان لا بد من أن يُستثمر ويسجل، كانت ستصبح خسارة كبيرة إن تقاعس أو عطله الكسل أو الخوف من مناخ التربص، فلن تتكرر كثيراً صدفة الطفل المصرى المولود لأب من الرأسمالية المصرية التى حفرت فى الصخر وتوسعت فى المشاريع واتصل مع الغرب بالتفاعل والسفر، والأم الأرستقراطية الليدى الفنانة الشيك، أملاك العائلة تتعرض للتأميم بعد الثورة والأب يهيئه لتقبُّل تلك الصدمة حتى يتوازن نفسياً، الابن يصبح ناصرياً، يدخل السجن من أجل إيمانه بمبادئ من أمّم أملاك أبيه! تجربة أن تقوم بتربيتك مربية إنجليزية وأرمنية وفرنسية وألمانية! كل منهن لا تبث مفردات لغة فقط ولكنها تبث مفردات ثقافة جعلت مسام «سلماوى» الروحية منفتحة على تقبُّل الآخر أياً كان، تجربة التعليم فى أرقى مدارس مصر، كلية فيكتوريا، مع كريمة الكريمة من نخبة المجتمع المخملية، ثم فجأة يكون مطلوباً منك التعامل مع فلاحى قريتك وحساب ثمن المحاصيل حتى تستطيع أكل العيش فى زمن كان فيه فصل الصحفى أسهل من كرمشة الكلينيكس! النقلة الرهيبة من شاب المفروض أنّ لمسَ الحرير يُدمى بنانه، زوجته فنانة تشكيلية رقيقة من عائلة مشهورة كانت متوجسة أصلاً من ارتباطه بابنتهم التى ارتبط بها رغماً عنهم، إلى سجن القلعة حيث منتهى الأمل أن تلبى نداء المثانة وتتبول فى الحفرة قبل أن تبلل نفسك وتعملها على روحك فى الطابور! أن تدرس أرقى آداب العالم فى قسم اللغة الإنجليزية على يد جيل د. رشاد رشدى ومجدى وهبة، وتدرس أدق أسرار اللغة العربية على يد مدرس اللغة العربية فى البيت، أن تحلّق بجناحيك فى أرجاء العالم من موسكو إلى نيويورك، وأن تضم ضلوعك لتسعك زنزانة خانقة تتحول فيها إلى جثة تتنفس، عجينة ثقافية ظلت تتشكل وتُصهر فى فرن تجارب من الصعب أن تتكرر بكل هذا الزخم لإنسان آخر، حتى جاء فرن الدور السادس أو قل عليه مفاعل الدور السادس النووى فى الأهرام، هذا الشاب المتعطش للثقافة يجلس إلى توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزى وزكى نجيب محمود ولويس عوض ويوسف إدريس وثروت أباظة، وفى ظل شجرة هيكل الوارفة الظلال! هذه الأنسيكلوبيديا البشرية التى من لحم ودم شحنت كاتب المذكرات بشحنات إنسانية وأدبية وفنية تكفى لإضاءة المبنى كاملاً وليس الدور السادس وحده! المدهش والجميل والجذاب فى تلك المذكرات السلماوية روح السخرية وخفة الدم التى تجعل من بعض مناطق السيرة مشاهد باسمة ساخنة تتفوق فى «السركازم» على أشهر الأفلام والمسرحيات الكوميدية، مثل مشهد استدعاء والده للطبيب لخلع أسنان النسناس ورعب الطبيب الذى أخذ يرش اسبراى المخدر على النسناس بغزارة حتى أغمى على الطبيب وأصبحت المشكلة فى إنقاذ الطبيب لا النسناس!، ومشهد سطح أم حسن الذى كان يزدحم بالمساجين على بلاطه الفقير لإجراء الاتصالات التليفونية، ووصفه الساخر لتداخل المكالمات التى تجرى فى نفس الوقت وتناقض مفرداتها والمقالب التى تحدث نتيجة سوء فهمها. «يوماً أو بعض يوم» ليس مجرد عنوان لكتاب محمد سلماوى، ولكنه حتماً هو الزمن القصير الخاطف الذى ستقرأ فيه الكتاب وكأنه لمحة لشدة جاذبيته وعذوبته وثراء حكيه ولغة كاتبه وسلاسة أسلوبه، شكراً للكاتب على تلك اللحظات التى اقتنصنى فيها هذا الكتاب الكريم السخى الممتع من زماننا البخيل الضنين الممتنع.