«انس عينيك.. دماغك هى التى ترى»، جملة مهمة لا بد أن تتذكرها إذا كنت تريد أن تكون متشككاً جيداً، يقول «هاريسون»، مؤلف كتاب «لماذا يجب عليك التشكيك؟»، إن فى داخلنا يعيش شخص غريب الأطوار اسمه الدماغ، ولا يجب أن نثق بأنه يفعل الأشياء الجيدة فقط، من ضمن الأشياء التى لا يجب أن تراهن عليها الذاكرة، تذكر أنك لا بد ألا تثق بذاكرتك!، الذاكرة من صنع هذا الشخص غريب الأطوار، الدماغ، فذكرياتك هى عبارة عن دفعات من المعلومات، التى جمعها الدماغ لكى تكون فى خدمتك، الذاكرة لها قيمة وظيفية ليست على رأس أولوياتها الدقة المتناهية، فالدماغ عندما يتذكر لا يعمل مثل كاميرا الفيديو التوثيقية، ولا يوجد مثل هذا القرص الصلب الذى يسجل بالهمسة واللمسة واللفتة، ولكن الدماغ يتصرف مثل عالم الآثار الذى ينقب عن الحفريات تحت طبقات الرمل، جزء من هنا على جزء من هناك، يكمل هو الفراغات والتجويفات التى سقطت، إنه البازل غير المكتمل، دماغك وذاكرتك لا يصنعان فيلم فيديو خام دون تدخل، دماغك يصنع فيلماً تسجيلياً تدخل فيه الدراما، دماغك يقتبس الواقع كما يكتسب الكتاب الفلانى أو الرواية العلانية بتصرف!، دماغنا يميل للعثور على الأنماط والنقاط المفقودة فى الصورة ويكملها هو، لذلك أنت تكمل صورة الشبح غير الموجود إلا فى خيالك تصوره إنساناً أو طبقاً طائراً أو أرنباً.. إلخ طبقاً لنظرية ربط النقاط تلك، باختصار أنت لا ترى إنما أنت تتصور، ولا يستطيع إنسان أن يلم بكل تفاصيل الصورة فى الوقت نفسه، يحدث لك عمى مؤقت عن بعض الأشياء فى الصورة، وهذا مفيد، وقد قام العلماء بتجربة سؤال بعض المشاهدين الذين طلب منهم التركيز فى عد التمريرات أثناء مباراة كرة سلة، بعدها سألوهم ما الشىء الغريب فى الصورة؟، لم يستطع أحد الإجابة برغم أنه كانت هناك غوريلا جالسة فى المدرجات!!، للأسف دماغك يتحيز للأدلة التى تدعم ما هو مخزن داخله من معتقدات، والتى من الممكن أن تكون معتقدات كارثية فى تخلفها وتخريفها، نحن نعشق الحجج التى تتوافق مع أفكارنا وتحميها حماية لنا من الشك الذى نرتعب منه، الدماغ المؤمن بفكرة ثابتة سيضرب الحصار على نفسه كقلعة قديمة محصنة وسيرفع الجسر المتحرك حتى لا تتسلل الأسئلة، وسيملأ المحيط الذى حول القلعة بالتماسيح، إنه سيدافع عن جدران فكرته حتى آخر نفس، هناك عشرات التحيزات التى تعطل دماغك عن الشك الإيجابى، وتجعلك تقع بسهولة فى فخاخ أفكار الخرافة، تحيز الفكرة الواحدة وإدمان إسقاط مرساة قاربنا فى وحل الماضى، تحيز الاحتكام للسلطة، تحيز الاحتكام للجهل، لأنه ما دام سائداً فلا بد أنه صحيح، تحيز التكرار والإلحاح الذى يزيف الحقائق ويخدر المتلقى، التحيز العاطفى.. إلخ، مجموعة تحيزات تجعلك مرتعشاً من فكرة أن تكون شكاكاً محترفاً، لذلك معركة تكوين المواطن الشكاك، وهو بالطبع مواطن غير صالح من وجهة نظر الكبير والسلطوى، ورجل الدين وأستاذ المادة وواضع المنهج ومدرس الفصل، هذه المعركة أصعب معاركنا الثقافية والسياسية والاجتماعية.