وصلتنى رسالة مهمة من اللواء متقاعد حسام سويلم، وهى دراسة كبيرة ومهمة ومبذول فيها جهد كبير، وليست مجرد مقال، رداً على ما كتبته عن كتاب التربية الدينية للصف الثالث الإعدادى، الذى يحرّم التماثيل، والذى لم يتحرك وزير التعليم، ولو بمجرد تصريح رداً على تلك الكارثة!!، يقول اللواء حسام سويلم فى الجزء الذى اخترناه من رسالته: قرأت باهتمام كبير مقالكم المهم بصحيفة «الوطن» بتاريخ 19 يناير الماضى، تحت عنوان: «وزارة التربية والتعليم الداعشية تدعو الطلبة إلى تحطيم التماثيل»، وقد ذكّرنى بتجربة لى فى هذا الشأن، عندما كنت ألقى محاضرة فى إحدى الكليات العملية، حول أهمية دعم قيم الولاء والانتماء الوطنى، ثم فوجئت بأحد الطلبة يطرح سؤالاً غريباً حول ضرورة تحطيم التماثيل والجداريات المصرية القديمة.. مثل أبوالهول ورمسيس وآمون.. وغيرها، باعتبارها فى نظره «أصناماً وأوثاناً تُعبد من دون الله»، وأضاف أن علينا أن نحتذى ونقتدى بحركة طالبان التى قامت بتحطيم تماثيل بوذا فى أفغانستان. ويرجع وجه الغرابة فى هذا السؤال، ليس فقط إلى كونه صادراً من طالب من المفروض أنه على قدر كبير من العقلانية التى ترفض مثل هذا الطرح الفكرى المتطرف والمتخلف، وهو فكر منتشر بين السلفيين فى مصر، ولكن أيضاً بسبب عدم تصدى رجال الدين لهذه الأطروحات الفكرية المنحرفة، رغم وجود العديد من آيات القرآن والأحاديث النبوية، فضلاً عن أحداث التاريخ، التى تدحض هذه الأفكار الغبية والشاذة، وتثبت بطلانها، فكان ردى على هذا الطالب بطرح خمس حقائق دينية علمية، عجز عن مواجهتها، وهى كالآتى: 1- الحقيقة الأولى: يقول المولى، عز وجل، فى سورة الأنعام، مخاطباً المسلمين فى كل زمان ومكان «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»(الأنعام 108)، حيث تنهى هذه الآية عن سب الكافرين، حتى ولو باللسان، وذلك حتى لا يقوموا رداً على ذلك بالإساءة إلى الله تعالى والإضرار بالمسلمين، ولأن حركة طالبان فى عام 2001 خالفت هذا الأمر الإلهى بتحطيم تماثيل بوذا، فقد رد البوذيون فى معظم بلدان جنوب، وجنوب شرق آسيا بإحراق المصاحف فى الشارع ومهاجمة المساجد ودور العلم وقتل بعض المسلمين، فضلاً عن مهاجمة وسائل الإعلام العالمية للإسلام وتصويره على أنه لا يحترم معتقدات الآخرين، فى حين أن هذه التماثيل لم تكن تمثل أى فتنة للمسلمين، وهم يشكلون الأغلبية فى أفغانستان، أى «سبوا الله بغير علم». 2- الحقيقة الثانية: يقول المولى، عز وجل، أيضاً فى سورة سبأ (12/13) «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ»، حيث تثبت وتؤكد هذه الآية أن سيدنا سليمان، عليه السلام، كان يأمر الجن بعمل التماثيل، فهل يعقل أن يأمر حضرته أتباعه من الجن والإنس بعمل أصنام تعبد من دون الله؛ وبما يتعارض مع جوهر رسالات جميع رسل الله، وهى عبادة الله وحده لا شريك له؟! بل تصف هذه الآية القرآنية أن عمل هذه التماثيل كان بإذن الله، وشكراً له عز وجل؟! 3- الحقيقة الثالثة: يكشف تاريخ الفتح الإسلامى لمصر فى القرن الأول الهجرى، أن صحابة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذين شاركوا فى هذا الفتح، ومنهم عمرو بن العاص، والزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، وحسان بن ثابت.. وغيرهم، قد شاهدوا التماثيل المصرية القديمة، ولم يأمر أى منهم بهدمها، فهل من المصريين اليوم المطالبين بهدم التماثيل المصرية من هو أقوى إيماناً وإسلاماً من هؤلاء الصحابة الكرام الذين امتنعوا عن هدمها، لكى يأتى اليوم من يطالب بهدمها؟!، كما تأسى بهذا السلوك الحضارى أيضاً التابعون، وتابعو التابعين ممن زاروا مصر على مر القرون وحتى اليوم. 4- الحقيقة الرابعة: لقد شاهد الملايين من البشر، مسلمين وغير مسلمين من كافة الملل والأجناس، هذه التماثيل عندما قاموا بزيارة مصر عبر القرون، فلم نشاهد أحدهم يركع أو يسجد لأبو الهول أو تمثال رمسيس أو توت عنخ آمون، فلِم إذن يتشدق هؤلاء المتنطعون ويتاجرون بالإسلام والحرص عليه، ويزعمون كذباً وزوراً أن هذه التماثيل أصنام تفتن الناس فى دينهم ويجب هدمها؟ 5- أما الحقيقة الخامسة فى هذا الصدد، فهى أن مصر القديمة، كما يقول القرآن قد قام بزيارتها الكثير من رسل الله الكرام، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.. ومنهم سادتنا إبراهيم، وموسى، وعيسى، وإدريس، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وهارون، وشعيب.. وغيرهم، ولأنهم جميعاً جاءوا بالإسلام، دين الله الواحد الأحد.. من ذلك قوله تعالى على لسان سيدنا يعقوب عند انتقاله «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة 133)، ومن ثم وبالضرورة كانت هناك تبعية لحضراتهم من المؤمنين بالله الذين يعتنقون الإسلام، ويؤدون نفس فرائضه التى نؤديها اليوم، من ذلك قوله تعالى: «يَا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَّاكِعِينَ» (آل عمران 43)، أى إقامة الصلاة بنفس أركانها التى نؤديها اليوم، كذلك قوله تعالى فى شأن فريضة الصيام «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ» (البقرة 183)، وفى شأن الحج يأمر المولى عز وجل سيدنا إبراهيم بدعوة الناس إلى حج بيت الله الحرام «وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (الحج 27)، وهو أمر بديهى فى هذه الحقيقة الأزلية والأبدية بأن هناك إلهاً واحداً، وديناً واحداً، وفروض عبادة واحدة، ورسلاً أرسلهم الله برسالة واحدة هى الإسلام. للأسف، الكثير من علماء الدين اليوم لم يتصدوا لهذه الدعاوى الباطلة، ولم يكن ذلك فقط لجهلهم بهذه الحقائق التى ذكرناها، على حكم القول المعروف «فاقد الشىء لا يعطيه»، ولكن أيضاً بسبب حسابات أخرى تهمهم أبعد ما تكون عن حقيقة الدين والدعوة إلى الله، ترتبط بمصالحهم المادية، أو ما يطلق عليه (البيزنس) رغم علمهم بهذه الحقائق، فنجد من هؤلاء العلماء من يلجأ إلى أحاديث موضوعة تتعارض مع صريح آيات القرآن تروج لهذه المفاهيم الباطلة، بدعوى أنها من «البخارى»، وما هى بذلك، وهو ما اعترف به المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى كتابه (الحديث دراية ورواية) عام 1975م ص48، ونصه: «إن العلماء قد صنعوا من رجال البخارى ثمانين رجلاً، أما الأحاديث فضعفوا بشذوذها، وما فيها من علل وقف أو قطع، فقالوا إن فيها أحاديث موقوفة وأخرى مقطوعة»، كما قالوا عن صحيح مسلم: «إن العلماء قد تكلموا فى مائة وستين رجلاً من رجال مسلم»، كما أوضح ذلك أيضاً كتاب (فى رحاب السنة) لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر طبعة ديسمبر 1969، تحت عنوان (الأحاديث المنتقدة على البخارى)، حيث قال: «إن عدد الأحاديث المسندة التى انتقدت على البخارى مائة وعشرة أحاديث»، ورغم ذلك نجد من علماء «البيزنس» اليوم من يدعو إلى تقديم وتفضيل الأحاديث الموضوعة المنسوبة باطلاً للإمام البخارى على ما جاء من آيات القرآن، وهو إمام عظيم، ولكن دُسَّ عليه الكثير من الأباطيل، كما دس على سيرة سيدنا رسول الله، وهو ما حذّر منه رسول الله فى الحديث الشريف الذى جعل القرآن هو المرجع الرئيسى للمسلمين، وذلك فى قوله الشريف «ستختلفون من بعدى، فما جاءكم عنى، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه، فهو عنِى، وما خالفه، فليس عنى».