كل النظريات العلمية الحديثة، مثل نظرية النسبية ونظرية الكم، عندما لا نفهمها يكون رد فعلنا الطبيعى مزيداً من التساؤل والمعرفة حتى نفهمها أكثر، إلا نظرية التطور، فعدم فهمها لا يقود إلى السؤال وطلب المزيد من التفاصيل، ولكنه يقود فوراً إلى الكراهية والرفض والهجوم!! وهذا عرَض وسلوك غريب أرجو أن نُشفى منه بمحاولة فهم هذه النظرية بلا رفض مسبق أو كراهية جاهزة أو تربص مزمن. نظرية التطور ببساطة هى تغير وليست ارتقاء، فالكائنات الحالية ليست بالضرورة أرقى، ولكنها الأكثر ملاءمة للظروف التى وُجدت فيها، أما كلمة السر الأولى فى فهم نظرية التطور فهى التغير، وكلمة السر الثانية هى الإنتاج المتزايد. وقد لمعت هذه الفكرة فى ذهن «داروين» عندما قرأ ما كتبه «مالتوس» عن تزايد السكان بمتوالية هندسية أسرع من تزايد الغذاء بمتوالية عددية، وهذا يؤدى إلى كلمة السر الثالثة وهى تنازع البقاء، ثم الرابعة الانتخاب الطبيعى، ولكن لا بد أن نفهم أن الانتخاب الطبيعى لا يعنى دائماً انتخاب الأقوى صاحب المخلب والناب فقط، ولكنه يعنى بالأساس أن الطبيعة تنتخب الأكثر ملاءمة للمناخ والظروف المحيطة كما ذكرنا من قبل، فالسحلية ذات اللون المطابق لما حولها من ورق شجر أو رمال ستتلاءم أكثر وتعيش أكثر وتنقل صفاتها بشكل أفضل، وهى هنا ليست أقوى بمعنى العضلات المفتولة ولكن بمعنى المرونة والمواءمة مع محيطها، وكذلك الطاووس ذو الألوان الزاهية والجذاب جنسياً هو الأقوى والأفضل من هذه الزاوية، ولكن المشكلة فى صعوبة تقبلنا لنظرية التطور وتفسيرها لتغير الكائنات هى أن عقولنا لا تستطيع استيعاب تحولات على مدى ملايين بل بلايين السنين، لأن هذا يحتاج إلى قوة خيال تفلت من أسر ووهم أن حياتنا عمرها ستة آلاف عام فقط! والمدهش أنه حتى فى الستة آلاف عام تلك حدثت تغيرات بسيطة فى بعض الكائنات تجعلنا نستطيع تقبُّل وتخيُّل التغيرات الهائلة التى لا نصدق أنها حدثت والتى حكاها لنا داروين فى كتابه البديع «أصل الأنواع». سأحكى لكم بعض هذه التغيرات البسيطة التى رصدها العلماء فى فترة زمنية بسيطة نسبياً، أشهرها الخطأ الذى حدث فى هيموجلوبين دم سكان المناطق الموبوءة بالملاريا وجعل منه «هيموجلوبين» مختلفاً يسميه العلماء «هيموجلوبين إس المنجلى»، والمدهش أنه هيموجلوبين مقاوم لمرض الملاريا وهذا ما جعله يعيش ويسيطر من جيل لآخر، وأيضاً حكاية الفراشات الرمادية الفاتحة الشهيرة التى تحوّل لونها إلى الأسود القاتم بعد عصر الفحم الذى غطى البيوت الإنجليزية بالسواد وأتاح للفراشات القاتمة فقط أن تعيش وتختفى من الأعداء.. إنها مرونة الانتخاب الطبيعى فى زمن بسيط يقاس بآلاف السنين، فما بالك ببلايين السنين؟! أعتقد أن هذه البلايين من السنوات ليست قادرة فقط على تحويل لون الفراشة ولكنها قادرة على تحويل الفراشة نفسها لكائن آخر مختلف! أعتقد أنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون جد تشارلز داروين لأبيه طبيباً ومخترعاً، وجده لأمه فنان خزف شهيراً، فلا يمكن أن يكتشف تلك النظرية إلا مزيج من عالم وفنان، عنده صرامة ودقة المنهج العلمى، وتحليق وخيال الإبداع الفنى. وعندما صرخ العالم «هكسلى» تعليقاً على نظرية داروين البسيطة: «كم نحن أغبياء لأننا لم نفكر فى ذلك من قبل!!» كان محقاً، فقد كانت إرهاصات ومقدمات تلك النظرية مطروحة ومتناثرة من قبل، ولكنها كانت مثل لعبة «البازل» تحتاج إلى عبقرى مثل داروين، يأتى ليجمع شتاتها ويحل ألغازها ويفك شفرتها، ثم يأتى العلم الحديث لينفخ الروح أكثر فى نظريته ويمنحها قبلة الحياة.