سعدت جداً بتكريم مهرجان أسوان لسينما المرأة للمخرجة التسجيلية الكبيرة الرائدة عطيات الأبنودى، أتمنى لها الشفاء لتعود إلينا سريعاً، فنحن بالفعل افتقدناها كإنسانة وكمخرجة وككاتبة، وللصدفة وجدت مقالاً نقدياً للصديق الذى غادر عالمنا وودعناه وودعنا الناقد الجميل على أبوشادى، مقالاً كان قد كتبه عن عطيات أقتبس منه تلك الجمل التى تعبّر عن بصمتها الفنية بمنتهى الصدق، يقول «أبوشادى»: تظل عطيات الأبنودى، إحدى العلامات الفارقة فى تاريخ السينما التسجيلية المصرية بعشقها الخالص لهذه السينما، وانحيازها الكامل للمواطن المصرى البسيط، وقدرتها على التعبير عن معاناته وهمومه وأحلامه وآماله وأشواقه، منذ بداياتها عام ١٩٧٢ بفيلم «حصان الطين» الذى كان انعطافة فى تاريخ السينما التسجيلية فى مصر، ومؤصلاً للتيار الاجتماعى بها، وممثّلاً مع فيلم المخرج الكبير هاشم النحاس «النيل أرزاق» البداية الحقيقية للسينما التسجيلية المصرية الجديدة، ذلك أنها واحدة من القلائل الذين يملكون إدراكاً واعياً بطبيعة اللغة السينمائية وبدور الفيلم التسجيلى فى إعادة اكتشاف الواقع وقدرته على زيادة وعى الجماهير وتحريضهم للعمل على تغييره إلى الأفضل. أكثر من عشرين فيلماً وعشرات الجوائز من المهرجانات المحلية والعربية والدولية هى حصاد رحلة تلك الفتاة الصغيرة الطموحة التى انتقلت من مدينة السنبلاوين الهادئة فى دلتا النيل إلى القاهرة الصاخبة موظفة صغيرة بالسكة الحديد لتصل بموهبتها وقدراتها وطموحها إلى هذه المكانة الفريدة على المستويين المحلى والعالمى. تُفصح أفلام «عطيات» عن عشقها لمصر، المكان والإنسان، ترى البسطاء فى أفلامها فى حالة عمل دائم.. تتوغل بالكاميرا فى حياتهم لتكشف عن جوهرها، وتتقدم نحو العمق (التقدم إلى العمق ١٩٧٩) محللة ظروف الواقع، مضيئة لعناصر الجمال والقوة فيه، شخوصها قوية، قادرة مكابدة، تعشق الحياة وتمارسها (إيقاع الحياة ١٩٨٨).. تتحرك بوعى تاريخى تختزنه أعماق إنسان الحضارات من أقصى الصعيد (ساندوتش ١٩٧٥) وحتى البحر.. والبحيرة (بحار العطش ١٩٨٠)، مدافعةً عن حق المرأة المصرية فى الحرية والمساواة، منتصرةً لها، مؤمنةً بدورها فى المجتمع، رافضةً كل أنواع التمييز ضدها (نساء مسئولات ١٩٩٤/ راوية - أحلام البنات ١٩٩٥)، ترى فى الديمقراطية السياسية والاجتماعية ضرورة لحل مشكلات الواقع المصرى (أيام الديمقراطية ١٩٩٦). ولأن «عطيات» تقوم بعمل مونتاج معظم أفلامها، ولأنها تدرك معنى الإيقاع، تأتى هذه الأفلام، عادةً، قصيداً إيقاعياً مُترعاً بالشعر، مُفعماً بالصدق، رغم خشونة مفرداته، وتكتسب الصورة أهميتها عند «عطيات» من خلال حرصها على استخدام زاوية مستوى النظر لتدفع المشاهد أن يرى.. ويتأمل.. ويفكر.. ليغيّر. وإذا كان «أبوشادى» قد كتب عن عطيات الفنانة فإن ابنتها الروحية أسماء يحيى الطاهر عبدالله قد كتبت عن عطيات الإنسانة فقالت: نحن فى العادة لا نملك اختيار آبائنا وأمهاتنا، فهم مفروضون علينا، فأنت تولد لأم لا تملك حق اختيارها ولا تملك هى حق اختيارك، وتسير العلاقة بينكما وفق خطة قدرية. لكن ما بينى وبين عطيات الأبنودى مختلف جداً، فأمومة الاختيار هذه كانت حلاً عبقرياً بالنسبة لى، وأنا لا أستطيع وصف إحساس الزهو الذى يتملكنى كلما تذكرت أن هناك شخصاً له مثل ما لها من مشاعر، قد اختارنى بإرادته لكى أشارك حياته وأعيش معه، وعرفت أخيراً أن «عطيات» جاءت إلى غرفة أبى بعد وفاته وبدأت جمع قصصه وأوراقه التى لم تُنشر، لأنها كانت تشعر أن أحداً من بين أصدقائه لن يؤدى هذه المهمة بنجاح، وبينما تجمع هذه الأوراق وجدتنى ألعب أمامها، وهى التى لم تكن رأتنى من قبل. وسألت: مين البنت دى؟ وعندما أخبروها عنى كنت أمسك بجلبابها، وعندها قررت الاحتفاظ بى رغم أن علاقتها بأبى لم تكن على ما يرام، كما يكشف عن ذلك كتابها وروايات الأصدقاء، مسألة أخرى غاية فى الأهمية وهى أن الأحاسيس لا علاقة لها بصلة الدم. مبروك يا «عطيات» أيتها الفنانة المبدعة، وننتظر على أحرّ من الجمر إبداعك الجميل.