كان آخر لقاء بينى وبين الصديق الراحل الباقى د. أحمد خالد توفيق فى ندوة تدريس الإنسانيات فى كلية طب قناة السويس، جمعتنى به جلسة طويلة تظللها ضحكته الخجولة المتهدجة التى تقطر شجناً، ودّع الجميع بحرارة وكأنه يخبرنا بالرحيل ووعد اللقاء. أمثال أحمد خالد توفيق لا يموتون، بل يغادروننا إلى حين، ولذلك فتأبينهم ليس بكلمات الرثاء ولكن بأن تكتب عن كتبه وكأنه حى بيننا، لن أكتب لكم عن رواياته ولكنى سأكتب باختصار عن آخر كتابين أهداهما إلىّ، الكتاب الأول هو «شربة الحاج داود»، المدهش أن تجد طبيباً يكتب عن العلم بنفَس روائى ومذاق قصصى، هذه عملة نادرة ومعجزة تنضم إلى قائمة العنقاء والخل الوفى! تخصص د. أحمد خالد توفيق، وهو طب الأمراض الحارة أو المتوطنة، سمح له بالاطلاع على معارك العلم الحقيقى فى أحراش أفريقيا وغابات أمريكا اللاتينية وغيرها من المناطق التى تتفوق فى تفاصيل معاركها على الحروب العسكرية، معارك بجد وبحق وحقيقى ضد الملاريا والحمى الصفراء والإيبولا... إلخ، فيها ضحايا وشهداء وانتصارات وهزائم، تحكى قصصاً أشبه بالملاحم، وتسرد تفاصيل عن علماء ضحوا بأنفسهم من أجل اكتشاف لقاح أو فضح طفيل أو فيروس، كل هذه التفاصيل المثيرة تغلفها مواقف طريفة وصدف عجيبة ومشاعر متناقضة ما بين الاحتفاء والغيرة والحب والحقد، طاف بنا المؤلف عبر هذه السافانا المتشابكة بأسلوب سلس وجميل، وأحياناً بوليسى، مثير وجذاب. طاف بنا أيضاً فى تخاريف وهلاوس العلم الزائف من الأعشاب إلى الكفتة مروراً بدجل الحمام والحبة الصفراء وارتباط التوحد بتطعيم الحصبة... إلى آخر تلك الأوهام التى يبيعها النصابون لمجتمعنا الذى يعانى من أنيميا علمية حادة نتيجة تعليم منحدر أكد المؤلف مراراً وتكراراً أنه لا حل ولا إنقاذ لمصر إلا بإصلاحه. من أهم النقاط التى ناقشها الكتاب «بيزنس الطب» الذى جعل الطبيب يخترع أمراضاً وهمية لمريضه لكى يسترزق ويأكل عيش ويُدخله فى دائرة الشكوى الجهنمية فى مجتمع يسكنه 90 مليون «مفتى» وطبيب!! ظاهرة الطبيب المستفيد لا المعالج، ناقش ظاهرة عشق بلبعة الأدوية وعشق وصفها أيضاً، وهى ظاهرة مصرية غريبة ومتفردة حقوقها محفوظة لنا مثل جهاز الكفتة وعلاج التليف بفعص جوز الحمام على سرة المريض!! الكتاب الثانى هو«أفلام الحافظة الزرقاء»، يكتب د. أحمد خالد توفيق بحب وبساطة عن معشوقته الأولى السينما، يكتب عن أفلام قديمة تنتمى إلى مدارس سينمائية مختلفة وأنواع متباينة، منها الكوميدى والأكشن والاستعراضى والرعب والسياسى، يأخذنا فى رحلة ممتعة وباللقطات (مع الكتاب دى فى دى يحتوى على اللقطات، وهى فكرة مبتكرة ومهمة لكتاب من تلك النوعية) عبر أفلام هى بصمات وعلامات ونقوش لن تُمحى من جدران أكبر المعابد الكونية، معبد الفن السابع، من أفلام الرعب (الشىء، طفل روز مارى، سايكو.. إلخ)، إلى أفلام الحرب (المدرعة بوتمكين، الجسر على نهر كواى، لورانس العرب)، إلى السياسة والرمز (زد، وإنهم يقتلون الجياد، وطار فوق عش المجانين)، إلى أفلام الخيال العلمى (451 فهرنهايت، ويوم طفت الأسماك ميتة، والبرتقالة الميكانيكية)، وأفلام الكوميديا (د. سترينجلاف.. إلخ)، وبالطبع الأكشن والويسترن، وجبة دسمة شهية ستمس وجدان كل قارئ، سيجد فيها كل من يطلع على هذا الكتاب الممتع منطقة كانت قد ألقت بها الذاكرة بعيداً فى الخلفية، فجأة يلقى عليها الضوء وتنور! خالد توفيق لا يقرأ بتحليل أكاديمى عن الضوء والكادر وحرفية الإخراج، وإنما يقرأ بروح وعين العاشق المتيم الذى يرد الجميل ويُفشى أسرار العشق والغرام، ويعلن للعالم كله أنه طبيب بدرجة عاشق سينما، وروائى برتبة متفرّج ترسو مزمن، وقيس يتنفس على شريط من السيلوليد أشعار حبه لليلى السينما وليلة العرض. لذلك أخبركم وأنا مطمئن بأن أحمد خالد توفيق مازال حياً ويقرئكم السلام بحروفه الخالدة.