أحياناً تصبح الضجة التى نثيرها حول حدث أو أزمة ما بمثابة غبار يُخفى الحقيقة، أو دخان يُضللنا عن التشخيص، أو سراب يُبعدنا عن حل المشكلة، هذا ما حدث مع مشكلة لعبة الحوت الأزرق، وهى بالفعل لعبة تثير التوتر والقلق، لكن السؤال: هل كل طفل مارس تلك اللعبة انتحر أمام الشاشة؟!، أم أن هناك جذوراً واستعداداً نفسياً لرد الفعل الرهيب هذا من الطفل؟، انتفاضة «التوك شو» مع دار الإفتاء والأزهر والإعلام لم تلد إلا فأراً، إدانات وفتاوى تحريم وتهديدات للعائلات والأطفال ومحلات البلاى ستيشن.. إلخ، لكن لم يناقش أحد ظاهرة اكتئاب الأطفال، وأيضاً حالات الانتحار التى نفّذها أطفال لم تكن لهم أى علاقة بألعاب الكمبيوتر، ولا يعرفون ما الحوت أصلاً، سواء كان أزرق أم رمادياً!!، وأحياناً كانوا ينتحرون بعد فشل دراسى أو مجرد اقتراب امتحان، فهل سنلغى الدراسة والاختبارات نتيجة تلك الانتحارات، أم نناقش أسباب اكتئاب الأطفال بجدية ونُحللها بطريقة علمية؟، ماذا لو ذهبت إلى الطبيب بطفلك يشكو من متاعب صحية وأخبرك الطبيب بأن طفلك مكتئب؟!، من المؤكد أنك ستبتسم راثياً لحال الطبيب الذى حتماً ستتّهمه بالجنون، أو على الأقل ستُطالب باسترداد قيمة الكشف، لاعناً اليوم الذى ذهبت فيه إلى هذا الطبيب!، فنحن نؤمن بأن الاكتئاب يقتحم حياتنا نتيجة كثرة التفكير، لدرجة أن العامة يصفون المهموم «بأن عنده فكر»، والتفكير نفهمه على أنه لمن تخطوا حاجز سن المراهقة وجلسوا ورحرحوا على شاطئ النُّضج أو بر الشيخوخة، ونعتقد أن الطفل كائن هلامى أو عروسة «باربى» ليست له رغبات أو ردود أفعال، ولا يعرف ما هو الحزن، فالطفل عندنا ضحكة بريئة، أو على الأصح ضحكة بلهاء، ولم يفلح الأطفال المصريون الذين قرأنا عن حوادث انتحارهم فى إنقاذنا من هذا التصور. للأسف هذا الإيمان، وذلك الاعتقاد خاطئ، بل أقول إنه خطيئة لأنه يعمى عيوننا عن رؤية الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، وهى أن الأطفال مثلهم مثل الكبار يكتئبون، لكن المأساة أنهم لا يعبّرون ولا يشكون، ولذلك يتضخّم حزنهم، ويتعملق اكتئابهم حتى يسد كل مسام البهجة والحياة، ويغلق كل نوافذ الأمل، والمأساة الأكبر أن التنفيس غير مسموح به لهؤلاء الصغار، فهو شقاوة ورذالة وزنّ ودلع ماسخ.. إلى آخر هذا القاموس الذى نتداوله لكى نعكس عُقدنا وكلاكيعنا على أطفالنا. فى بداية القرن العشرين، كان العلماء يشاركوننا هذا الاعتقاد، ويجزمون بأنه لا اكتئاب عند الأطفال، وظل الحال على ما هو عليه حتى بداية السبعينات التى وضع فيها الباحث «وينبرج» صفات الاكتئاب عند الأطفال وتفرقته عن المزاج غير المعتدل، أو الحزن غير المرضى الذى لا يدوم إلا فترة زمنية بسيطة وينتهى ويزول مع زوال السبب، لكن ما هى علامات الاكتئاب عند الأطفال التى تدق للأم والأب جرس الإنذار، لتُنبههم إلى أن هناك خطراً محدقاً؟، غداً نعرض لكم كيف تكتئب الزهور؟.