الريف المصرى يمثل إشكالية كبيرة فى تاريخ الرواية المصرية، فإن تشم رائحة أزقته وتصور أمعاءه وتلمس تربته وتشم عرق فلاحيه من خلال سرد روائى، فتلك مهمة انتحارية، فالأغلبية يكتبون عن الريف بعين السائح، ونادراً ما ترى أرضاً جديدة لشرقاوى جديد، أو حراماً حديثة لإدريس معاصر، أو أياماً سبعة لعبدالحكيم قاسم حديث، لذلك كانت سعادتى برواية «داير الناحية» للكاتب محمد البرغوثى، كنبض جديد ومختلف فى شرايين روايات الريف المصرى. «البرغوثى» يحمل قريته تحت جلده، حتى لو جلس فى فنادق السبع نجوم، يُدهشك فى كل صفحة، كيف استطاع المزج بمهارة وحذر وكأنه يمشى على السلك بين شبكة علاقات قروية وشبكة تواصل عنكبوتية؟ وكيف نجح فى أن يرصد القرية المصرية الحديثة، التى ما زالت ترزح تحت عبء وميراث القرون الوسطى فى الوقت نفسه الذى تتعامل فيه مع الإنترنت والسوشيال ميديا؟!، جدارية متألقة فى مقدمتها شخصيات تحمل بصمة قهر نسيان الزمن وقمع تجاهل السلطة، وفى خلفيتها «الواتس آب والفيس بوك والتروكولر واليوتيوب» يحرك الأحداث ويوقظ الديناصور المنقرض بالستالايت!، الرواية ممتعة وجذابة ولغتها سلسة وسهلة وإيقاع التصاعد فيها هندسى صارم، لكنها صرامة لا تُنمّط الإحساس أو تحول الرواية إلى معادلات رياضية، لكنها دائماً تحتفظ بدفء اللحظة وحميمية العاطفة وبكارة الدهشة. الراوى وبطل الرواية «خالد سرحان»، صحفى فى القاهرة، لكن ما زال حبله السرى مرتبطاً برحم قريته، يحج إليها، لكن كعبته الأولى ليست بيته الدافئ، لكنها بيت «دولت» حبيبته التى ماتت مسمومة فى ريعان الصبا، قتلها القهر الذى سيظل يصاحبنا كغيمة سوداء طوال الرواية، انجذب إليها برقصة لمس فيها إيقاع الروح ونبض البهجة، حين يستفز الجسد عصب الحب العارى ويمزق خيوط الكبت، أجهض حبه، وظل نادماً على خرسه طوال تلك السنين التى تتجاوز الثلاثين عاماً من الندم والشجن، تبدأ أحداث الرواية بمقابلة شقيق «دولت»، الذى طالما طارد حبهما حتى اغتاله، وشاركت زوجته فى تلك الجريمة، تلك شرارة الرواية الأولى، التى ستظن أنها قد أخمدت عندما ودّع «خالد» شقيق «دولت» وغادر المكان، لكن الذكرى ليست رماداً، فتحتها النار تطل بألسنتها، لم تمت «دولت»، فقد استنسخها القدر فى بنت أخيها «عفت»، الخالق الناطق، نفس الحيوية والذكاء والجسد المشتعل المشع حياة ورغبة، تعود عجلة الزمن، لكن هذه المرة يأتى القهر من فارق السن، وليس من فراق القمع، تنفتح عدسة الرواية على خلفية مرعبة من العلاقات المحبطة والصراعات القذرة والشخصيات التى داستها ومسحت ملامحها عجلات الفاشية الدينية الزائفة والسعار الاستهلاكى المنحط، القرية التى صارت مسخاً هجيناً بين قيم مدينة مشوّهة وقيم قرية تحتضر، «عفت» مقهورة بنقاب أسود هو قبر متحرك، وبزواج على الورق وهى قاصر مرغمة عليه من سلفى مسجون فى أحداث رابعة، وباحتياج مادى إلى معونة «حماها» المتأسلم سمسار الدين والعقارات، الذى سيطلبها -فى ما بعد- لنفسه بعد يأسه من الإفراج عن ابنه، وكأنها حذاء يستعيره!، حقول مهجورة من أجل مكسب تجارة «الترامادول»، أصدقاء افترسهم الاكتئاب والفصام، منهم من سافر إلى إسرائيل، ومنهم من هاجر إلى داخل نفسه، يأكل خلاياه البانجو والهلاوس، شيخ القرية مخبر أمنى يقبض راتباً من أمن الدولة، وأيضاً محلل شرعى يتزوج مطلقة ويخدع زوجها ليطفئ ظمأه وجوعه وشبقه فيها، نجار سواقى غادره الزمن، وغدر به والتهمت ماكينات الرى الحديث أحلامه، فمات حسرة، ضابط شرطة يغتصب بنات عمه والخرس يلف القرية، فهو الذى يقضى مصالحها!، قمامة ومجارى وحشائش سامة تلتهم بكارة وخضرة وعبق الحقول فى زمن أنانى قاسٍ دموى، أحدث اختراعات العصر تُستخدم فى أردأ وأحط سلوكيات العصر، «فيس بوك» يُستخدم لفضح وتجريس فتاة كل جريمتها أنها تحب، «واتس آب» يستخدم للتجسس، «تروكولر» يستخدم للهروب والكذب، تشوهات إنسانية وقبح وجدانى وتغييب عقلى انعكس على الزمان والمكان، ملحمة من خيوط قهر فولاذية تخنق الجميع لا تخلو من عطر بهجة هنا ورعشة عشق هناك، نهاية الرواية نافذة مواربة تُلخّص زمن المراوغة الضبابى الغائم، «عفت» ما بين الحياة والموت لا تعرف إن كانت الحادثة مدبّرة أم صدفة، وبجانبها «خالد» مكسور لا يعرف إجابة عن سؤاله المزمن: هل من الممكن اقتناص الفرحة بإيقاف عقارب الساعة وتجميد الزمن وتحنيط المشهد وتثبيت لحظة العشق واجترار المستحيل، «داير الناحية» رواية تمس أغوارك وتكشف أحراشك برفق إنسانى وخبث روائى، إنها قطرة الندى التى من الممكن أن تسقى وردة وأن تكسر صخرة.