قصة نحت تمثال «نهضة مصر» والاكتتاب له وتغلُّب المثّال العظيم محمود مختار على كل العقبات بإرادته التى تشبه الجرانيت فى صلابتها، ذكّرنا بها د. عماد أبوغازى فى ذكرى مرور تسعين سنة على إزاحة الستار عن التمثال فى 20 مايو 1928، وأهمية كلام د. عماد أنه يجمع بين الذوق الفنى الرفيع لأكاديمى متميز ووزير ثقافة سابق، وبين أنه واحد من أفراد عائلة مختار وابن لمن خلّد «مختار» بتوثيقه لرحلته الفنية وهو د. بدر الدين أبوغازى، كتب د. عماد على حسابه مقالاً مطولاً بالعامية التى منحت حديثه دفئاً وبساطة، ولذلك تركتها كما هى، وإليكم هذا الاقتباس بما تسمح به المساحة: مرت 8 سنين بين عرض مختار تمثاله للمرة الأولى فى باريس فى مايو سنة 1920 وإزاحة الستار عنه فى 20 مايو سنة 1928، 8 سنين مليانين معارك طويلة مع البيروقراطية اللى أعاقت العمل فى التمثال، ومعارك مع الساسة المؤيدين لاستبداد الملك فؤاد، لأن تمثال النهضة كان تعبيراً عن ثورة الشعب، وكان فى الوقت نفسه ثورة فى القيم الفنية. مصر عرفت تماثيل الميادين والجناين من أيام الخديوى إسماعيل، لكن كلها كانت بإيدين نحاتين أوروبيين، وكانت تماثيل لأسرة محمد على وكبار رجال دولتهم، أو تماثيل الأسود الأربعة اللى زيّنت كوبرى قصر النيل، فكان تمثال النهضة أول تمثال ميدان ينحته مصرى فى العصر الحديث، يرمز به لثورة الشعب، ويختار الفلاحة المصرية علشان تكون رمز النهضة، وكان الاختيار ده فى حد ذاته ثورة على قيم الدولة المصرية الحديثة اللى أسسها محمد على، وانتزاع لجزء مهم من الفراغ العام لصالح الشعب، وكان اختيار ميدان باب الحديد، اللى يُعتبر مدخل القاهرة الرئيسى للى جايين من الوجه البحرى أو الوجه القبلى، تحدى للسلطة. وإذا كان رفض تجسيد الفلاحة للنهضة فضل فى نفوس الملك والموالين له ما بيعلنهوش بوضوح، لكن محاولة إبعاد التمثال عن مكانه المختار تكررت أكتر من مرة، لكن توازن القوى كان فى صالح مختار وتمثاله، وانتهى الأمر برضوخ الملك فؤاد وتحديد ميعاد لإزاحة الستار عن التمثال أثناء تولى مصطفى النحاس رئاسة الحكومة الائتلافية بين الوفد والأحرار الدستوريين، ولما اتغيرت موازين القوة بعد 1952 تم نقل التمثال من مكانه الأصلى للمكان الحالى وحطوا مكانه تمثال رمسيس. التمثال كان فيه مجموعة من الإشارات والدلالات المهمة، مختار اختار الفلاحة رمز للثورة اللى اعتبرها نهضة أو بعث لروح الشعب، واستخدام المرأة رمز لثورات الشعوب أمر متكرر، لكن الرمزية دى لها دلالتها اللى بترتبط بالانتقال للعصر الحديث بثوراته وقيمه اللى بتكون نتيجة لصعود الطبقات الوسطى فى المجتمع. وفيه 3 عناصر مهمة فى حركة الفلاحة، أولها حركة الإيد الشمال اللى بتقوم فيها الفلاحة بإزاحة الطرحة عن وشها، ورغم إن الفلاحة المصرية ما كانتش بتحجب وشها، لكن ممكن نربط ده بالتحول فى ستات الطبقات العليا فى المجتمع اللى تخلصوا من اليشمك فى سياق المشاركة فى الحراك الثورى. وثانيها نظرة الفلاحة المتطلعة للمستقبل. وثالثها حركة الإيد اليمين اللى تبدو كما لو كانت تستنهض «أبوالهول» اللى بيرمز للماضى البعيد. «مختار» لجأ لفكرة رمزية مشابهة للفكرة اللى استخدمها «سافان» فى تمثال مصطفى كامل، لما خلى مصطفى كامل مسنود على راس تمثال مصرى قديم، لكن مختار طوّر الرمز فى تمثال النهضة لما اختار «أبوالهول» بدلالاته، وصوّره فى حالة توثُّب للنهوض بفعل حركة الفلاحة اللى بتحفّزه للقيام من الرقاد، هنا الثورة بتستدعى الماضى اللى عرفت فيه مصر حضارة كبيرة كان المصريين من فترة قبلها بدأوا يتعرفوا عليها مع فكّ رموز الهيروغليفية وتوالى الكشوف الأثرية وإنشاء أول متحف للآثار فى سنة 1835، وكأن المصريين فى أواخر القرن التسعتاشر وبدايات القرن العشرين بيعيدوا صياغة هويتهم، وكان تمثال نهضة مصر لمختار انعكاس للهوية الجديدة اللى بتتشكل، وفى الوقت نفسه كان واحد من أدوات تشكيلها.