حاول فرج فودة إنشاء حزب باسم المستقبل بل تقدم فعلاً إلى لجنة الأحزاب ببرنامج ظل «مانيفستو» ودستوراً لكل حزب جاء فيما بعد ينشد الدولة المدنية، دولة المواطنة والقانون، لكنهم ماطلوه وارجأوه وألقوا به فى سلة المهملات، اغتالوا الرجل بسيف اللامبالاة والطناش رهاناً على النفس القصير واليأس المرير الذى سرعان ما يفترس المثقف الذى يصارع وحيداً ديناصور التطرف المفترس، وأيضاً تنين الدولة المحترس، ومن مشاهد مسرح العبث واللامعقول فى ملحمة فرج فودة أنه فى نفس وقت رفض أوراق حزبه وحلمه المجهض، وقبل اغتياله بعام، تم منح الشيخ محمد الغزالى جائزة الدولة التقديرية!، ولإنعاش ذاكرة السمك المصرية، الغزالى هو الشخص الذى وراء مصادرة رواية «أولاد حارتنا» ببلاغه للسلطات، وهو أيضاً الشخص الذى وراء مصادرة ثأر فرج فودة بشهادته أمام المحكمة التى قال فيها إن فرج فودة يستحق القتل، ولكنه كان لا بد أن يقتل بيد الدولة لا بيد مَن هم خلف أسوار القفص، إن جريمتهم فقط هى الافتئات على حق الدولة، لم يكن يعرف هذا الشيخ أن الدولة فعلاً كانت قد قتلته حين وضعت أفكاره فى القفص وقصقصت أجنحتها، وقامت بتعقيمها حتى درجة العقم فلم تحلق بذور لقاحها لتنتج ثماراً فى تربة العقل المصرى التى حرثها وحصدها فيما بعد الإخوان والسلفيون فى 2011، فكانت النتيجة المرّة والحصاد المؤلم وثمار الصبار التى ما زلنا نتجرع أشواكها حتى تلك اللحظة التى نعيشها، لم تكتفِ الفاشية بشهادة شيخ كانوا يطلقون عليه الشيخ الوسطى لتبرئة المجرمين القتلة الأوغاد، بل أتى الزمن الأغبر برئيس جمهورية إخوانى يوقّع على قرار الإفراج عن قاتل فرج فودة، ليخرج علينا علانية فى البرامج معلناً عدم الندم، ومعترفاً بأنه لو عاد به الزمن سيقتل «فودة»، ثم يذهب مجاهداً إلى سوريا منضماً إلى «داعش» فيقتل وينعاه حزب مصرى رسمى تعترف به الدولة التى تحارب الإرهاب، ويوقع على بيان الإشادة بالشهيد الإرهابى القاتل رئيس الحزب طارق الزمر!!، أى عبث نعيشه فى مسرح اللامعقول الذى ما زال لم يسدل أستاره ويطفئ أنواره؟ أى لوحة سريالية نشهد ألوانها الدموية النازفة على جدران القلب والوجدان؟! ما أشبه الليلة بالبارحة! ما زال المفكر الإخوانى اللاحق الماركسى السابق الذى وقّع على بيان تكفير فرج فودة واتهامه بالردة والذى كان سبباً فى اغتياله، ما زال عضواً فى هيئة كبار العلماء التى تحكم مصر عقلياً وفكرياً وبحكم الدستور، وهو الذى كان حتى وقت قريب رئيساً لتحرير المجلة الناطقة باسم الأزهر!!، ما زالت بيانات التكفير والفتنة تصدر من تلامذة ومريدى نفس الهيئة التى أباحت دم فرج فودة قبل اغتياله بأسبوع، وكانت هى الباب الذى مرت منه عصابة القتلة التى لم تقرأ سطراً واحداً للشهيد، بينما حفظت بيان المشايخ عن ظهر قلب، ما زالت برامج دعاة الوهابية تطل علينا من شاشات الفضائيات بنفس اللهجة واللغة التى تحدث بها الشيخ الغزالى حين قال فى برنامج «ندوة للرأى» على التليفزيون المصرى بوضوح: «إن من يدعو للعلمانية مرتد يستوجب أن يطبق عليه حد الردة»!، وكان وقتها مسئولاً عن قوافل التوعية الدينية التى ما زلنا نمارسها ونرسلها بنفس الفكر العقيم ونفس الوجوه المتحفية!، ما زلنا مؤمنين بأسلوب المناظرات تحت شعار الرأى والرأى الآخر، غير مقتنعين أنه ليس رأياً آخر بل هو نفى للرأى، ولا حواراً بين الرأى ونفى الرأى، لأنه طالما صادر عليك مَن يحاورك وقال لك هذا ليس رأيى بل إنه رأى الله، أغلق باب الحوار لتفتح نافذة التكفير والاغتيال المعنوى الذى ينتهى بالاغتيال الجسدى، كما حدث مع فرج فودة بعد مناظرة معرض الكتاب الشهيرة التى كانت هى فصل الختام فى قرار الاغتيال، لم تشفع له لهجته الراقية ولا لغته المعتدلة عند هؤلاء الهمج، اغتالوه برغم هذه اللهجة وتلك اللغة، وهذه رسالة إلى كل مَن يقول إن المشايخ غاضبون من فلان، لأن لهجته غليظة وأسلوبه فج، صدقونى إن السبب الحقيقى ليس خشونة اللغة ولا اللهجة، ولكنها خشونة ضياع البيزنس الدينى!!. السؤال المؤلم هل ضاعت دماء فرج فودة هدراً وهباء؟، سألنى صديق أمس وهو يشير إلى مجموعة من الشباب الذين يحشرون أنوفهم رغبة فى هداية الآخرين بالعافية، متخيلين أن معهم التوكيل الحصرى للجنّة، قائلاً: هل يستحق هؤلاء أن نموت من أجلهم كما مات فرج فودة؟، أصابنى الخرس وباغتتنى دمعة لا أعرف إن كانت دمعة فراق أم دمعة ندم، مصر تستحق الأفضل لكن المهم هل هى تريد الأفضل حقاً؟!