عرفت الراحل العظيم د. سيد البحراوى، أستاذ الأدب والنقد، وأنا ما زلت فى كلية الطب. وفى فترة الامتياز توطدت الصلة، فقد كان البحراوى يسكن أمام المستشفى الذى أتدرب فيه (مستشفى بولاق الدكرور) فى شقة من شقق هيئة التدريس. اقتربت منه ومن زوجته الفاضلة أستاذة الأدب الفرنسى د. أمينة رشيد فى وقت كان يتجمع فيه أساتذة قسم اللغة العربية الذى كان أكاديمية تنوير مستقلة وسط جامعة القاهرة. شاهدت عظماء الفكر ومناضلى الكلمة، كنت أراهم عنده، وكنت أذهب معهم وأنا ما زلت أتلمس الطريق، تخيل عندما تستمع إلى مناقشات فكرية يشترك فيها الدكاترة الأساتذة جابر عصفور ونصر حامد أبوزيد وعبدالمحسن طه بدر والبحراوى... إلى آخر طابور العمالقة الكبار بجد وحق وحقيقى. كانت تلك هى المدرسة التى أتعلم منها أكثر بكثير من المدرسة التقليدية، وكانت صلتى بهم قد بدأت عن طريق زميلى د. جمال، ابن قريته بالمنوفية، والتى أنجبت أيضاً الصديق أحمد النجار رئيس مجلس إدارة الأهرام السابق. رغم ارتباط البحراوى بسليلة الباشوات التى تتحدث الفرنسية كأدباء فرنسا، كان فلاحاً حتى النخاع، وأصر على الارتباط هو وزوجته العظيمة بتلك القرية الجميلة، كانت الجلسات دوماً يظللها الدخان الكثيف للسجائر التى كان يدخنها البحراوى بشراهة تتجاوز الحدود، كانت صديقته الأثيرة ودينامو إبداعه وتسليته الممتعة والتى أصابته بسرطان الرئة فيما بعد. أعجبنى فيه الإصرار والعناد، علّم نفسه اللغة الفرنسية وهو فى سن كبيرة بعد الحصول على الدكتوراه، وأنتم تعرفون كم هى صعبة تلك اللغة الأدبية الرصينة، وصار البحراوى الذى كان لا يعرف حرفاً من تلك اللغة يناقش دكتوراهات تناقش مقارنات بين الأدب العربى والأدب الفرنسى! كان من أوائل من انتبهوا إلى دور المجلات الأدبية الخاصة، فكانت مجلة «خطوة» التى شارك فى تأسيسها، وكان لها دور عظيم فى الحركة الثقافية، وما زالت أعدادها تزين مكتبتى، خاصة العدد المرجعى الرائع عن يحيى الطاهر عبدالله. وقف ضد التيار عارى الصدر فى قضية التطبيع، وكان من أشرس وأشرف الرموز التى حاربت التطبيع.. حتى مجاله الدراسى وتخصصه الدقيق تنقّل فيه وبين زهوره من نقد الرواية والقصة القصيرة والشعر حتى وصل إلى تدريس العروض، وهو التخصص المعقد الذى صار على يدَى البحراوى تسلية ومتعة، حتى فى مواجهته للموت كان مختلفاً وعنيداً، حوّل تجربته إلى إبداع، كما فعل أمل دنقل وبدر شاكر السياب، فكتب «فى مديح الألم» عن تجربته مع هذا المرض اللعين، وهو من أجمل السير الذاتية التى تحكى تجربة مبدع مع السرطان وترى الألم من منظور جديد وزاوية مدهشة، الكتاب يستحق إعادة الطبع من دار الثقافة الجديدة، وقد نبهنى لأهمية نشره الصديق الدؤوب الجميل شعبان يوسف، كتاب ممتع أترككم مع بعض اقتباسات منه: • «احتمال الموت يجعلك أكثر قدرة على مراقبة تمثيليات الأحياء لترتيب مستقبل حياتهم وما فيها من سذاجة وطفولة». • «لست نادماً على أى شىء فعلته فى حياتى، ومستعد دائماً لتحمل النتائج». • «كنت أحاول أن أعيش بأقل قدر من الألم والتعاسة، وأقل قدر ممكن من إزعاج الآخرين، كما كنت إلى حد ما سعيداً، وحين فكرت فى احتمال الموت، لم أكن منزعجاً، فليأتِ إذا أراد، لكننى على كل حال أستطيع أن أعيش ما بقى من العمر». • «انشغلت بموضوع الألم، وشغفت به نحو عام قبل أن أبدأ علاج السرطان، ثم توقفت إجبارياً، لكن بعد انتهاء العلاج المؤلم أعود إليه. أريد أن أمجده، باعتباره قرين الحياة، فلا حياة بلا ألم». • «أحاول إعادة التعود على البيت، خاصة أشيائى الحميمة: الأوراق والأقلام، للتأكد من أنها ما زالت موجودة وفى مكانها». • «عكس كلمة الألم الراحة وليس السعادة».