الرهان على التدين العاقل يبدأ بسؤال: ما معنى أن أكون متديناً؟ هكذا يبدأ المفكر المغربى سعيد ناشيد رحلته لتقديم البديل والعلاج فى كتابه «دليل التدين العاقل» الصادر عن دار التنوير. وبالمزيد من الأسئلة يطرح على المسلمين معنى التدين، فيقول: هل معنى أن أكون متديناً أن أتوقف عن التفكير وأخلع عقلى عند باب المسجد قبل الدخول مثلما أخلع النعل؟ هل معناه أن أشل إرادتى أو أسلمها للشيخ أو السلف كما لو أننى أتبرّع بالأعضاء قيد حياتى؟ هل معناه أن أكون كارهاً للدنيا وللحياة لاعناً للمتع محتقراً للجسد متشبعاً بثقافة الموت والكآبة؟ هل معناه أن أكون حاقداً على من لا يشاركنى ديانتى أو مذهبى أو طائفتى أو فرقتى «الناجية»؟ هل معناه أن أنكر طبيعتى البشرية أو أتنكّر لفطرتى الميالة إلى البهجة والحب والمجد والجمال؟ هل معناه أن أكون جاهلاً متواكلاً منفعلاً، أفسّر كل شىء بانفعالات الله، فأجعل غضبه سبباً لفشلى الدراسى أو إخفاقى العاطفى؟.... إلى آخر تلك التصورات المغلوطة التى صارت مرادفاً لمعنى التدين. ولكن، ما هى خطورة التدين بهذا الشكل؟ من الممكن أن نريح دماغنا ونقول «إحنا مالنا، كل واحد يتدين بالشكل الذى يعجبه». الخطورة هنا أن الفطرة الإنسانية التى من المفروض أنها أحد تعريفات الإسلام الذى نردد دائماً أنه دين الفطرة، تلك الفطرة نمشى عكس اتجاهها بطريقة التدين السلفية السائدة، يقول «ناشيد»: «دعنا نتساءل مستعينين بالحس السليم: متى كان الرقص ضد الطبيعة البشرية؟ متى كان الاختلاط ضد الطبيعة البشرية؟ متى كان الغزل والتغنّى بالحب ضد الطبيعة البشرية؟ متى كان الاستمتاع بالنحت ومشاهدة التحف والتماثيل ضد الطبيعة البشرية؟ متى كانت الأناقة والرشاقة واللياقة ضد الطبيعة البشرية؟ متى كان السؤال والتساؤل والشك والاندفاع نحو المجهول ضد الطبيعة البشرية؟ متى كان التمرد والتفرد والتميز والتألق بعيداً عن ثقافة القطيع ضد طبيعة الإنسان؟ وإلا، فبأى معنى نتحدث عن دين الفطرة؟ وعن أى فطرة نتكلم؟ عندما تملى علينا تصوراتنا الدينية واجبات ضد طبيعتنا الإنسانية وضد غرائزنا ومشاعرنا وحواسنا وميولنا، أى ضد الفطرة التى فطرنا الله عليها، فإننا ندفع بأنفسنا إلى أحد الخيارين: إما ممارسة النفاق الاجتماعى بحيث نعيش حقيقتنا فى الخفاء ونُرضى السلطة الآمرة فى العلن؛ أو أننا نُلزم أنفسنا بما لا يلزم فنشل عقلنا ونشوه طبيعتنا ونخرّب فطرتنا، فنقع فى العصاب الوسواسى القهرى». يضع المؤلف فى كتابه عدة قواعد وأسس للتدين العاقل تُعتبر ركائز لمن ينشد العلاج الحقيقى لأمراض الذهنية العربية الإسلامية التى صارت مزمنة بفعل كسلنا عن مواجهة أنفسنا بشجاعة وصدق، من ضمن تلك القواعد قاعدة أن الإيمان رهان شخصى، ويميل «ناشيد» ويتبنى قول المتصوفة «يُدرَك الدين بالذوق»، ويؤكد على أن «الذوق هو أكثر الحواس تفرداً عند الإنسان، لكنه الحاسة التى لا تحتمل أى قدر من الإكراه والإرغام. وهذا بالذات ما يجعل الدين مسألة شخصية عند الإنسان، وتؤكده الآية (لا إكراه فى الدين)، على هذا الأساس فإن الخطاب الدينى الذى يسعى إلى تنميط الكائن الإنساني شكلاً أو مضمونا إنما ينتهى إلى إفساد الدين الذى لا يصلح سوى بحرية الوجدان، وإفساد الطبيعة البشرية التى لا تصلح سوى بحرية الإنسان». ويفند ما يسمى الثوابت فى قاعدة ثانية قائلاً: «ليست (ثوابت الدين) التى ورثناها عن السلف سوى وجهة نظر السلف وقد منحناها صفة الثوابت، فيما تسمّيه الأدبيات التكفيرية اليوم بـالمعلوم من الدين بالضرورة». ويواصل المؤلف انتقاده لتلك الثوابت والرواسب التى دفنت الفرد داخل مفاهيم الطاعة والجماعة والبيعة فأشاعت ثقافة القطيع، ودفنت العقل داخل مفاهيم التسليم والإعجاز والقدَر فأشاعت ثقافة الخنوع، ودفنت الأقليات داخل مفاهيم دار الإسلام وأهل الذمة والولاء والبراء فأشاعت ثقافة التعصب، ودفنت الأخلاق داخل مفاهيم الحلال والحرام والترهيب والترغيب فأشاعت ثقافة النفاق، أما قاعدة الجهاد التى هى وقود الداعشية المعاصرة فيخصص لها المؤلف ويبنى قاعدة مهمة، وهى أنه -ومباشرة بعد فتح مكة- انتهت مشروعية الفتوحات والغزوات والقتال الدينى، ويرى أن أكبر خطأ هو منح الغطاء الدينى للفتوحات التى كانت خطيئة دينية أخرجت ديننا الحنيف من دائرة الرحمة وأدخلته دائرة العنف الأممى المستشرى، الذى نرى استمراريته اليوم فى سياق ما يُصطلح عليه بالإرهاب المعولم، ثم أفرد للمرأة قاعدة مهمة تثير الكثير من الجدل واللغط الآن وتُعتبر عند معظم رجال الدين الآن فريضة سادسة، إنه الحجاب الذى وضع له قاعدة أنه عادة لا عبادة.