لم أندهش من قرار وزيرة الصحة بعزف السلام الجمهورى والنشيد الوطنى فى المستشفيات، فهذا ليس قراراً فردياً، وإنما هو قرار يعبّر عن عقل جماعى مأزوم ومهزوم، هو مجرد ترس فى منظومة نفاق اجتماعى، هو مجرد لون رمادى فى لوحة وإطار تقديس المظاهر وعبادة الشكليات والمباهاة بالطقوس، ثقافة صراخ تبدأ من «أنا وطنى»، وتنتهى بـ«أنا متدين»، مروراً بـ«انت ما تعرفش بتكلم مين». مجتمعنا يعانى من غياب الضمير وحضور الفهلوة، يختزل المعانى الكبيرة فى تصرفات صغيرة، فتضيع المعانى الكبيرة ونصغر نحن كوطن، ونضعف كمجتمع، ونتقزّم كأفراد. للأسف «السلام الجمهورى ونشيد بلادى» هذا المعنى العظيم والرمز المبجَّل، مثله مثل العلم، والذى تلتف حوله القلوب، تمت «مرمطته» واستباحته بهذا القرار الأحمق المتسرع غير المسئول الملىء برائحة المزايدة الرخيصة والادعاء الممجوج. ما يقتلنا حقيقة برصاصة فى سويداء القلب كمجتمع هو العقل المظهرى المغرم بالشكليات، الناسى للجوهر، العاشق للإطار الفارغ والجدل البيزنطى، مجتمع يحل مشكلاته بالطلاء الخارجى، ويُبقى على الجدار ينخره السوس لينهار بمجرد نفخة ريح، يواجه قضاياه المصيرية بحلول تنتمى لقشرة الذهب التى تُخفى تحتها صدأ ساماً وزرنيخاً. الفرد يحل علاقته الوجودية مع الرب، الذى طالبه بالعمل والجد والجهد والسعى فى الأرض واحترام الضمير، باللحية والجلباب، وتحلها بالإسدال والحجاب، وتنتهى المسألة. بدلاً من أن يخترع الموبايل يكدس فيه رنات الأذكار ونغمات الأدعية ويطلق عليه «الموبايل الإسلامى» لمجرد رنة، تجد صاحب مصنع يسرق عرق العمال ويتهرب من الضرائب ويرشو الجمارك، لكنه يقطع العمل للصلاة، ويربى لحيته، ويضع على مكتبه أكبر مصحف، ويطلق على شركته اسم أحد الصحابة، ناظر مدرسة صباحاً تجده ليلاً سمسار دروس خصوصية لطلبته الذين لا يحضرون أصلاً، لكن جدار المدرسة مكتوب عليه بخط الثلث والكوفى «يحيا الوطن» و«تعيش مصر» و«بلادى بلادى لك حبى وفؤادى»! كذلك المستشفى لن تجد فيه سرنجة أو رباط شاش أو زجاجة ميكروكروم، ولكنك ستجد إذاعة داخلية تعزف السلام الجمهورى! إنه النفاق الاجتماعى وصراخ الشكليات، كل الذين قبضت عليهم الرقابة الإدارية فى الآونة الأخيرة بتهم خطيرة، سواء كانوا وزراء أو محافظين أو رؤساء مجالس محلية أو مديرى تموين أو شركات مياه شرب أو نواب محافظين... إلخ، كلهم دون استثناء كانت على مكاتبهم المصاحف وكتب الأحاديث ولافتات محبة الله لإتقان العمل، وكانوا من مدمنى سماع أغنية «ماتقولش إيه ادتنا مصر»، بل إن نائبة محافظ الإسكندرية كانت قد جعلتها شعاراً للمرحلة! نجد وزيراً سابقاً طلب رشوة رحلة حج، نكتشف أن محافظاً «بزبيبة تزين جبهته» قد زوّر شهاداته الدراسية، نشاهد مذيعاً، يصرخ بالوطنية والوطن ليل نهار، يشتم الشعب المصرى، ويتأفف منه ويدعوه للاستحمام! نستمع إلى شتائم وخوض فى الأعراض من رجل قانون، نتعلم الانتماء من لاعب كرة يبيع بلده بالريالات القطرية، نتفرج على قناة فضائية شعارها «شاشة تأخذك إلى الجنة» وكل ساعات البث تحريض وفتنة وجهنم، التابلت فى يد طفل ممزق المريلة يجلس بجانب ستين طفلاً على دكة بلا قاعدة وأحياناً على البلاط! ازدواجية مقيتة، وشيزوفرينيا مدمرة، وفصام يشل أى قدرة على الفعل، الحياة شبه الحياة، كل ما نفعله هو شبه الحقيقى والمفروض والواجب، «كل حاجة بالويم ومن ع الوش». متى نعلن الطلاق لثقافة الطلاء؟