هل المتهم محمد ناجى، فنى الإلكترونيات هو الذى ذبح نجيب محفوظ وطعنه بالسكين، أم أن الذبح والطعنة كانت بيد ثقافة مجتمع قدمت محفوظ قرباناً، ونصّبت ناجى منفذاً؟!، ماذا عن الذبح الأول، ذبح ما قبل الذبح، الطعنة كانت قبل 1994 بسنوات طويلة، ووجبة الفاشية الدينية كانت تُطبخ على نار هادئة لكى نلتهمها جميعاً حتى نشبع وتصيبنا التخمة السلفية ونصبح مستعدين لحفلة الزار التى نعيش دقات دفوفها المجنونة التى تصم آذاننا حتى هذه اللحظة، الطهو الدينى لم يكن مقتصراً على صاحب اللحية والجلباب بالثريد واللحم ولكن شارك فيها مثقف البدلة ورباط العنق بالتوابل والبهارات!، قدم لنا تلك البانوراما وقرأ لنا تلك الخريطة الكاتب الجميل المدقق المحقق محمد شعير، من خلال صياغته الُمحكمة وسرده الساحر وعبارته الرشيقة قدم لنا كتاباً هو من أمتع الكتب التى قرأتها فى الفترة الأخيرة ومن أكثرها أهمية، «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة» الصادر عن دار العين، كتاب لا يحكى سيرة أولاد حارتنا فقط، ولكنه يحكى مسيرة أولاد وطننا أيضاً، الذين فرطوا بمنتهى السهولة فى تراث التنوير والدولة المدنية وسلموا المحروسة لأنياب الضباع مجاناً، تراث الطهطاوى وطه حسين ولطفى السيد وسلامة موسى ومصطفى عبدالرازق، الذى شكل أيقونة اسمها نجيب محفوظ، كنا قد ظننا أن هذا التراث قد تسرّب إلى النخاع من مسامنا، لكن الكتاب أيقظنا بمطرقته الصادمة الثقيلة ليعلن أن هذا التنوير ظل هامشياً على السطح ولم ينفذ إلى العمق، نظام يضرب الإخوان ويتركهم يراقبون ويصادرون من خلال مؤسسات الدولة، الغزالى وسيد سابق تمنحهما الدولة سلطة من خلال لجنة «الدفاع عن الإسلام» فتكون رواية أولاد حارتنا على رأس جدول الأعمال وتكفير صاحبها له أولوية النقاش!، مثقفون وأدباء يقدمون بلاغات ووشايات وتقارير فى الرواية ويتحدثون بلغة المشيخة لا الفن، شاعر مشهور يضع السم فى العسل ويشعل نار التكفير المحفوظى من خلال نشر رسالة وصلته من مصارع!، وزير اقتصاد يهاجم ثروت عكاشة لاحتضانه نجيب محفوظ، ضابط كبير من الضباط الأحرار كان يشغل أحد عشر منصباً، من بينها وزير التعليم ينتفض لأن محفوظ خدش حياءه الإيمانى متصوراً أن بداية ونهاية هى نفسها أولاد حارتنا!، ثانى رجل فى الدولة يأمر كتيبة بالقبض على صاحب الرواية لولا تدخل الحاكم شخصياً، مجمع البحوث الإسلامية يمنع، ثم يجدد منع الرواية، وزير إعلام يرفض طلب وزير الثقافة بطبع الرواية، ثم يزور صاحب الرواية بعد محاولة اغتياله ليصرح أمام كاميراته بأنه لا مصادرة فى عهد رئيسنا وتحت قيادته الميمونة، ناقد كبير يطالب نجيب محفوظ بالابتعاد عن كتابة مثل تلك الروايات والإسراع بكتابة ثلاثية عن السد العالى!، سلطة تتغاضى عن تحريض زعيم الإرهابيين ومنظّرهم وصاحب الفتوى فيهم الذى قال: «لو كنا قتلناه من تلاتين سنة ماكانش سلمان رشدى تجرأ وعمل كده»، منحوه الوسام بعد نوبل، ثم شطبوا رواية «كفاح طيبة» بحجة خلاف على 8 قروش، وألغوا بعدها خطابه إلى الأكاديمية السويدية من كتاب القراءة بحجة تخفيف المناهج!، باعوه وسلّموه كما يقول الحرافيش تسليم أهالى، جثمانه كان يكفّن حيًّا لتسليمه إلى فنى الإلكترونيات ليتفنن فى ذبحه، كان قد جهّز للموت ولكنهم كانوا ينتظرون فقط إعلان الوفاة، وعندما مات نجيب محفوظ مر جثمانه من خلال جهاز كشف المفرقعات، حتى يأمن الرئيس على نفسه أثناء الجنازة العسكرية، كل يشد نجيب من ناحيته للحصول على مكسب حتى المسئول الفلسطينى الكبير يعرض عليه أضعاف قيمة جائزة نوبل فى سبيل نصرة القضية الفلسطينية!، لم يتساءل أحد ما العلاقة ولكنه زار الشعارات الدينية والسياسية والقومية الذى نردده كالمجذوبين دون وعى. كتاب سيرة الرواية المحرمة لا تكفيه تلك المساحة ويحتاج صفحات لقراءة ما خلف السطور وتحليل تلك البانوراما الروائية والتاريخية بتفاصيل ألوانها وتداعياتها ودلالاتها، ودراسة قبسات نبوءات محفوظ الملهمة التى كان فيها زرقاء يمامة هذا الوطن المنكوب بآفة النسيان، فقد قال «محفوظ» إن الشرطة قد كسبت فى معركة الإرهاب لكن المجتمع قد خسر وصارت مرجعيته دينية، وإن الإرهابيين قد نجحوا فى إدخالنا المعركة وفقاً لشروطهم، دق جرس الإنذار، ثم رحل، ولكن حارتنا المصرية تحتاج إلى استعارة سماعة نجيب محفوظ بدلاً من استعارتها نظارته السوداء.