فى الليلة الظلماء يفتقد البدر وكلما ساد الضباب سماء حياتنا الثقافية، وكلما أحسست بأن الضجيج سيغتال المنطق، وبأن صوت الخرافة صار أعلى من صوت العقل، ألجأ إلى كتب فارس العقل المصرى د. زكى نجيب محمود، لكى أفهم أكثر، وأتعلم أكثر، وأطمئن أكثر، ربع قرن على رحيل هذا العملاق المتواضع الذى وهب حياته لقضية العقل، فى مثل هذا الشهر رحل وهو يغرد تغريدة البجعة الأخيرة التى تغرس قلبها فى الأشواك وهى تطلق أغنية الوداع إلى عنان السماء، أتخيله اليوم هامساً باكياً على ما آل إليه حال العقل من مهانة قائلاً: أنا من ضيع فى الأوهام عمره! لذلك اسمحوا لى أن أقطف لكم زهرة من حديقة هذا الرجل العظيم لتتنسموا عطر ياسمين فكره الراقى وأريج منطقه الواضح الجلى ولكى نقنعه وهو فى السماء أنه لم يضيع عمره فى الأوهام. يقول د. زكى نجيب واصفاً إدراكنا المزيف وطريقة تفكيرنا المشلولة: «كهف قعد فيه ساكنه بحيث أدار ظهره لفتحة الخروج، واتجه ببصره نحو الجدار الداخلى، فلا يعرف عن الدنيا الخارجية شيئاً إلا ظلالاً يراها تتحرك على الجدران منعكسة عن المارة فى الطريق العام، مضافاً إليها مخزون نفسه، ومع ذلك فالوهم يخيل له أنه يعرف عن الدنيا حقائقها». العربى حين يسخر من منجزات العلم الحديث، ويهزأ بالعقل الإنسانى وقدرته، إنما يفعل ذلك على ظن منه بأن مثل هذه الوقفة ترضى ضميره الدينى!! وبأنها وقفة تتضمن أن اعتزاز الإنسان بعقله، واعتداده بقدراته العلمية كما تشهد بها منجزاته الحديثة، فيه جرأة على رب العالمين!!. الحرب تشتعل والعلماء يخترعون القنابل والعربى مشغول بسؤاله الأهم «هل الأصح فى اللغة أن نقول قنبلة أم قنبرة؟!». الماضى هو ما نعلمه عنه. لا بد من تغيير أوتار القيثارة ليتغير النغم. الفارق الأساسى بين الرؤية العلمية ورؤية التخريف هو فى إدراك الرابطة السببية الصحيحة فى الحالة الأولى، وعدم إدراكها بل عدم البحث عنها فى الحالة الثانية. نحن عارضو أزياء لا نحن ناسجوها ولا بائعوها. نحن كالمبصر الكسيح نرى الطريق ولا نستطيع السير فيه. نحن نمارس فكراً على فكر وليس فكراً على مشكلات. أمريكا وكندا وأستراليا صنعهم التجانس الثقافى ثم النماء الذى أدى إلى الانتماء. هم يصبون الطاقة العقلية على الأشياء ونحن نصب طاقتنا على الأقوال. التعليم فعالية داخلية تنشط بها طبيعة المتعلم، وليس التعلم آذاناً تصغى إلى ملقن. الصدق عندنا هو صدق فى الاستدلال وليس صدق الفكرة الرئيسية. هم يبدأون بالمشكلة يبحثون لها عن فكرة، نحن نبدأ بالفكرة نبحث لها عن مشكلة. فقيرة هى النفوس التى تنظر إلى باطنها فتجد خواء، فتمتد إلى خارجها لتقتنى ما يسد لها ذلك الخواء، وماذا تقتنى؟ تتصيد أناساً آخرين ذا نفوس أخرى لتخضعهم لسلطانها! إنها علامة لا تخطئ فى تمييز أصحاب النفوس الفقيرة من سواهم، فحيثما وجدت طاغية -صغيراً كان أو كبيراً- فاعلم أن مصدر طغيانه هو فقر نفسه، فإن المكتفى بنفسه لا يطغى، إن من يشعر فى نفسه بثقة اطمئنان ليس بحاجة إلى دعامة من سواه. الأصل فى الفكر -إذا جرى مجراه الطبيعى المستقيم- هو أن يكون حواراً بين «لا» و«نعم» وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكراً ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكراً، ففى الأول عناد الأطفال، وفى الثانى طاعة العبيد. إن العرب فى حاضرهم إذا أرادوا أن يكونوا استمراراً للعرب فى ماضيهم، فلا يلزم عن ذلك أن ينقل الحاضرون عن الماضين كل ما اصطنعه هؤلاء الأسلاف من مبادئ، بل من حقهم أن يغيروا وأن يبدلوا كلما رأوا الفروض النظرية التى افترضها أسلافهم لم تعد تثمر لهم فى حياتهم الثمرة المرجوة، كانت مبادئهم فروضاً فرضوها لأنفسهم لتصلح بها الحياة بظروفها الماضية، ثم تغيرت ظروف الحياة فلم يعد بد من تغيير الفروض.