علامة الاستفهام أهم من نقطة الإجابة، جسارة السؤال وشجاعة الشك وحرية المناقشة هى التى تصنع التقدم والحداثة، وهى أول مقومات الحضارة، وأهم بكثير من تكديس المعارف وحفظ الإجابات، هذا هو ما نحصده عندما نقرأ قصص وحكايات الحاصلين على جوائز نوبل للعلوم، انبهرت بقصة كفاح وتمرد هؤلاء العلماء، وكنت أتمنى سردها جميعاً، لكنى اليوم سأقتصر على حكاية «جيمس أليسون»، وهو العالم الأمريكى، الذى حصل على جائزة نوبل فى الفسيولوجى والطب لهذا العام (2018)، وتقاسمها مع اليابانى تاسكو هونجو، قصة حياة أليسون هى قصة تمرد على البديهيات المستقرة، حكاية تؤكد أن شخصية العالم الحقيقى هى شخصية متعدّدة الأبعاد، فيها رحابة إنسانية، بعيداً عما نتخيله عن أن العالم صاحب نظرة ضيقة متخصّصة أو شخص موظف انعزالى ذى بعد واحد، أليسون بدأت معركته مع السرطان مبكراً، تعرف على هذا الوحش وعمره 11 سنة عندما فقد أمه التى ماتت بسرطان الغدد الليمفاوية، ثم بعدها بأربع سنوات فقد عمين من أعمامه الأول بسرطان الرئة، ثم الثانى بالميلانوما، ثم بعدها بسنوات فى 2005، فقد شقيقه الأكبر الذى أصيب بسرطان البروستاتا، وكانت الصدمة الأكبر حين أصيب هو نفسه بنوعين متعاقبين من السرطان، البروستاتا ثم الميلانوما، اللذين أنقذ منهما بسبب الاكتشاف المبكر، تلك الميلودراما خلقت فى أليسون روح التحدى ضد السرطان وأيضاً ضد العلاج التقليدى للسرطان، بحثت فى قصة الطفل أليسون لكى أعرف كيف توصل هذا العالم الفذ إلى طرح هذا السؤال المختلف والتفكير خارج الصندوق والبعد عن الأفكار الجاهزة والإجابات المعلبة المحنطة؟، كيف لمعت فى ذهنه فكرة أن يحفز الجهاز المناعى بمنع الفرامل المعوقة له لكى يهاجم خلايا السرطان بدلاً من العلاج الكيماوى التقليدى؟!، كان لدىّ فضول شديد للبحث فى أوراق الطفل والشاب أليسون الذى هو فرد من طابور المتشككين الذين غيّروا العالم، هذا الطفل الذى استقل مبكراً نتيجة فقدانه لأمه وانشغال والده طبيب الأنف والأذن فى القوات الجوية، قرر أن يشق طريقه بنفسه مدفوعاً بغريزة الفضول وعطش السؤال، هوايته كانت تشريح الضفادع وعمل تجارب مفرقعات بدائية فى الغابات، وقادته طبيعته المتمردة ذات يوم لاتخاذ قرار خطير، وهو أن يترك المدرسة ويغادرها نهائياً، اعتراضاً على مدرس قرر أن يشطب نظرية التطور من منطلق دينى، لأنها نظرية حرام!، وكان هناك مجموعة من البروتستانت الأمريكان قد تبنوا هذا الرأى، وكانت لهم السطوة حينذاك، لكن الطفل أليسون كان له رأى آخر، تمرد عليهم ورفض فاشيتهم الدينية، وتدخل الأب ومستشار المدرسة لحل المشكلة، ومع عناد أليسون كان الحل هو هجر المدرسة النظامية والدراسة بالمراسلة مع جامعة تكساس، استمر الشغف مع هذا العبقرى وتصاعد إيقاع غرامه بعلم المناعة والكيمياء الحيوية وأبحاث علاج الأورام من تكساس إلى جامعات كاليفورنيا إلى مراكز أبحاث نيويورك، وقبل بأى وظيفة تقرّبه من هدفه، لدرجة أنه عمل فى وظيفة غسل الأوانى الزجاجية فى أحد مختبرات الكيمياء الحيوية فى بداياته!، لكن هل هذا العاشق لعلم المناعة لا يعرف إلا المختبر ومعادلاته الكيميائية؟، لم أندهش حين عرفت أن جيمس أليسون هو عازف ماهر ومحترف للهارمونيكا وتمت دعوته أكثر من مرة للعزف على مسارح مشهورة فى تكساس، وسبب عدم دهشتى أننى أثق فى أن العالم الذى لا يمتلك جزيرة إبداعية يهاجر إليها أو هواية فنية يرتمى فى أحضانها فى أوقات التوتر هو حافظ لا عالم، فالإبداع لا يتجزأ، أما قمة التمرد والتحليق فقد كانت فى 2008، حيث قرر أليسون تشكيل فرقة روك مكونة من علماء المناعة والأورام فى أنحاء أمريكا!!، قصة محاولاته فى المختبر لمنع فرملة وكبح ما يسمى CTLA-4 المعرقل لقوة انطلاق الخلايا المناعية T-CELLS وقضائها على السرطان، قصة تحتاج إلى مجلدات، ولكن القصة الأكثر دلالة على قوة عزيمته وتمرده المزمن الذى لا يهدأ كالبركان هى قصة تحويل اكتشافه إلى دواء وعلاج للسرطان، خروجه من دائرة المعمل المغلق إلى رحاب عنابر المستشفيات وسراير المرضى، إنها قصة دواء ipilimumab، الذى ظل سنوات عديدة محل رفض من جميع شركات الدواء، إلى أن اقتنعت به «بريستول مايرز سكويب»، أصر على النجاح ولم يحبط، وهو يستمع إلى السخرية من اكتشافه والتهوين من جهوده، فتح الطريق بتمرّده وأسئلته وفضوله ورفضه لما يطلق عليه بديهيات وثوابت ومعلوم بالضرورة، فتح الطريق لطابور طويل من بعده من العلماء، وقاد ثورة ما يطلق عليه العلاج المناعى الذى سيروض الوحش السرطانى، إنها ليست معركة مع السرطان، لكنها معركة مع الجهل والتخلف والقمع، إنها معركة السؤال القلق ضد الإجابة الجاهزة.