«هل الديمقراطية هى مفتاح سمسم الذى سيفتح مغارة الحداثة بلا مجهود؟»، سؤال طرحه المفكر جورج طرابيشى فى مقدمة كتابه «هرطقات». السؤال محورى ومصيرى وفارق، والإجابة عنه بصدق وأمانة، وجسارة وبدون مزايدة أو تملق للشارع أو خوف من الهجوم، تُعد هى بداية طريق الحل ومعرفة علاج الداء العضال للفكر العربى والإسلامى. ديمقراطية صندوق الانتخاب فى شعب يفتقد ثقافة قبول الآخر هى طلاء زائف على حائط رطب هش خال من الخرسانة! ديمقراطية بدون علمانية هى خداع وسراب وجعجعة فارغة وضجيج بدون طحن وصراخ بدون صدى. إنها قفزة، ولكنها قفزة فى الفراغ، الديمقراطية ليست مفتاح سمسم فى مجتمع يُقصى أصحاب الديانات المختلفة والبشرة المختلفة والجنس المختلف. بالديمقراطية فقط سنستطيع دخول المغارة، لكننا لن نجد مثل على بابا ياقوتاً أو مرجاناً، بل سنجد شوكاً وحصرماً وصباراً، سيغلق الباب علينا ونحن فى الداخل مسجونون فى أوهامنا بأننا نبنى دولة الحداثة والمدنية والمواطنة. الدولة الديمقراطية التى يقف على كل صندوق فى داخل كل لجنة انتخابية قاض ومستشار ورجل أمن ليضمن نزاهة التصويت، وفى نفس الوقت يقف خارجها من لا يستطيع الحصول على ترقية لأنه من دين آخر أو مذهب مختلف، وامرأة ضربها زوجها فى الشارع فسانده المارة لأنه قوّام عليها ومن حقه تأديبها، وطفلة تحاول الفرار من أبيها الذى يجبرها على الزواج من رجل «شحط» بمبرر تقليد السلف وتحت شعار أنها تستطيع تحمل الوطء، هذه الدولة التى تفتقر إلى العلمانية التى ترفض إقحام الدين ورجال الدين فى الفضاء العام المشترك السياسى والاجتماعى، لم تدخل عتبة الحداثة بعد، وما زال بابها موصداً أمامها حتى ولو كانت تعيش أزهى عصور الديمقراطية. منع اقتحام الفضاء العام المشترك، وسيادة القانون، وقيم المواطنة، هى التى تضمن حضارة الحداثة ومشاركة التقدم، هذا الاقتحام المرفوض بداية من نصوص تعلن ديانة الدولة، وهى مجرد كيان معنوى لا بد ألا يحمل صفة دينية، وانتهاء بشارع يشرعن اضطهاد مختلف المذهب فى نفس الدين ويدعو عليه من فوق المنابر ويصفه بأنه الخطر الأعظم، ويقنن التحرش بامرأة مكشوفة الشعر لأنها مستباحة بفتوى وناقصة الدين بنص! حائط الصد هذا ليس ضد الدين، بل هو حماية للأديان، يتحول معه الفرد إلى مواطن فى دولة وليس فرداً فى قبيلة أو مشجعاً فى ألتراس. وكما طرح «طرابيشى» سؤال مفتاح سمسم طرح أيضاً -وفى نفس الكتاب (ص10)- ما سماه إشكالية «المفتاح والتاج»، هل الديمقراطية شرط أم نتيجة؟ مفتاح سحرى أم تاج يتوج التطور؟ وإشكالية البذرة والثمرة، وخلص إلى أن البذرة تحتاج إلى جهد فى تربة المجتمع، ولو زُرعت فى غير تربتها أسرعت إلى الموات والتحول إلى عشب سام، هى مجرد شرط من شروط الإقلاع، لكنه شرط غير كافٍ، هى مفتاح لكنه يحتاج مفتاحاً آخر! وتنبأ «طرابيشى» بما حدث فى الربيع العربى بالضبط، رغم أنه قد كتب هذه الهرطقات قبل الربيع العربى بسنين عديدة وفارق زمنى كبير. كتب جملته النبوءة فى ص13: «فى ظل غياب البديل البورجوازى فإن المعارضة الشعبية للديكتاتورية لا بد وأن تأخذ شكل صعود محتوم للمد الأصولى»! وهو ما حدث بالضبط فى كل البلاد العربية التى اجتاحتها ثورات الربيع العربى، فقد استولى الإخوان والسلفيون والجهاديون -وبديمقراطية الصندوق- على كراسى الحكم والقرار، وتقدمت النازية الدينية الصفوف، وعلقت المشانق للمخدوعين، وحولت الدين من وظيفته الروحية إلى توظيفه السياسى، من طاقة تمنحنا الاطمئنان الروحى والنفسى ضد رهاب الموت إلى ورقة انتخابية تخدّر القطيع، وصوت حزبى يجلده بسوط الرعب الأخروى والحرمان من الفردوس، ومكسب مادى بمضاربات وسمسرة وتجارة تتدثر بالدين ونصوصه حمالة الأوجه. ألصقوا مع كلمة الديمقراطية توأمها السيامى الملتصق وهى كلمة «التسامح» لكى يقنعونا بأن الديمقراطية فقط هى الحل، وها نحن قدمنا إليكم كوكتيل الديمقراطية مع العلمانية فى نفس الفخفخينا، لكن كلمة التسامح كانت أول الكلمات المشطوبة فى الجمعية الوطنية الفرنسية، كتبت تلك العبارة «نحن لا ننشد التسامح بل ننشد الحرية». التسامح كلمة فيها استعلاء، من يملك حق المنح يملك حق المنع، المواطنة ليست هبة بل هى حق، الماء لا يقول للملح أنا متسامح معك ولست متسامحاً مع السكر فى الذوبان. هكذا الوطن، نحن جميعاً، تحت رايته وعلمه وعلى أرضه، مواطنون ننشد نفس النشيد الوطنى، وندرس نفس التاريخ المشترك، ولا فضل لأحد على أحد. وكما رسخت الجمعية الوطنية الفرنسية -مهد العلمانية- قيم المواطنة، أكد «فولتير» -أيقونة ومنظر وفيلسوف الفكر العلمانى وصاحب الشرارة الفكرية الأولى- أن «الإنسان الذى يقول لك آمن كما أؤمن وإلا فإن الله سيعاقبك، حتماً سيقول لك آمن كما أؤمن وإلا قتلتك». وقال فى نفس السياق مناشداً الفرنسيين: «وحّدوا أنفسكم، واقهروا التعصب والأوغاد، اقضوا على الخطب المضللة والسفسطة المخزية والتاريخ الكاذب، لا تتركوا الجهل يُخضع العلم»، وهذا ما جعل فرنسا، بعد كلامه بقرون، فى 1920، تمول بناء مسجد باريس بفتح حساب بخمسمائة ألف فرنك فى نفس الوقت الذى تحظر فيه النقاب، لأنك فى المسجد ستمارس طقوس دينك، لكنك بالنقاب ستقتحم الفضاء العام والشارع المشترك بطقوس عاداتك التى تريد فرضها ديناً. وهنا يتضح الدور العلمانى للدولة الذى لخصه فاروق القاضى فى كتابه «العلمانية هى الحل»، ص130: «الدور العلمانى للدولة هدفه السماح لمن هم الأضعف، الأقل عدداً، أو الأقل قبولاً، بالاستمتاع بكل الحريات المتاحة للجميع، فالدولة العلمانية لا تمارس غير دور الحكم المسير للأمور بين المواطنين على قدم المساواة، لا تنحاز لمفهوم معين للحياة الفاضلة غير مفهوم المواطنة الذى يساوى بين كل المواطنين بلا تمييز، وتتصرف بحيث لا يستطيع أحد أن يفرض مفهومه على الآخر، تتخلى عن استعمال العنف لفرض توجه رسمى معين للحياة الخاصة، لكنها تستعمل سلطة الدولة لتمنع فرداً أو جماعة من ممارسة هذا الفرض». الدولة لا تُدخلك الجنة، وليست تلك وظيفتها، ولكنها تدخل إلى بيتك المياه والصرف الصحى، وهى لا تنشئ لك قصراً فى الفردوس، لكنها تنشئ لك طرقاً وكبارى، الدولة تغطى عجز الموازنة لا شعر النساء، وظيفتها ليست قياس إيمانك ولا قياس درجة حرارة ورعك وتقواك ولا حجم تدينك، تترك علاقتك مع ربك وحسابك لديه فى الآخرة، ليس هذا شأنها ولا مسئوليتها، فأنا أريد فى البرلمان نائباً لا نبياً! أما عن علاقتى بالمواطن الآخر فى مجتمع الحداثة فتقوم -كما كتب سعيد ناشيد فى كتابه «الحداثة والقرآن» ص 142- على أن «الإنسان الحداثى سيد نفسه، علاقته مع الآخرين علاقة شراكة لا علاقة إذعان»، هذا الإذعان العقلى الذى قال عنه «ناشيد» إنه قد جعل المسلمين مثل مجموعة من السلاحف على ضفاف ماء آسن!.