بصفتى عاشقاً قديماً لأدب يوسف إدريس، فقد قرأت تقريباً كل الكتب والمقالات النقدية، التى تناولت قصصه ومسرحياته، لذلك عندما بدأت فى قراءة كتاب «يوسف إدريس.. خفايا الإبداع» للروسية فاليريا كيربتشنكو، وترجمة الصديق الروائى د. إيمان يحيى، كنت أتصور أننى سأتصفحه سريعاً، لأن السؤال الذى ألح علىّ كان هو: «ماذا ستقدم تلك الناقدة الروسية من جديد لا نعرفه عن يوسف إدريس؟»، وفوجئت بأن الكتاب قد جذبنى، ولم أتركه إلا مع آخر صفحة، واكتشفت أن قارة يوسف إدريس الإبداعية ما زالت بها مناطق مجهولة ومساحات إبداعية مهجورة، وما زالت السباحة فى مياهه الإقليمية الفنية تثير المتعة والسعادة، الكتاب جذاب، رغم أنه فى الأصل رسالة دكتوراه، فيه المنطق الأكاديمى القوى، وفيه أيضاً متعة السرد المشوقة، والمترجم مُحب ليوسف إدريس إلى درجة الهيام، وكتب من خلال قراءته اللاقطة لسطر فى تلك الدراسة رواية كاملة كانت أحداثها مفاجأة لمحبى يوسف إدريس، بطلها الحقيقى ومحركها وبوصلتها، وهى «الزوجة المكسيكية»، من خلال هذا الهيام ترجم لنا إيمان يحيى الكتاب بعمق وفهم وحب ولغة سلسة تحمل نفس ونكهة يوسف إدريس المتفرّدة، يتضح من أول سطر أن يوسف إدريس قد فضفض للناقدة الروسية بصراحة بخل بها على نقاد مصريين وعرب كثيرين، خاصة عن كواليس وسراديب حياته الشخصية، يعود هذا من وجهة نظرى لفهمه بالشخصية الأوروبية التى تعتبر السقطات الشخصية مساراً طبيعياً، وتتسامح معها، بل تعتبرها وقود إبداع، لأننا لم نخلق ملائكة من نور، ولا أجساداً من فولاذ، وربما جعل البعد الجغرافى والثقافى للناقدة عن عالم يوسف إدريس الغارق فى مصريته، جعلها فى أعلى درجات الجدية والتركيز، كمن ينظر إلى لوحة من بعيد، فيلتقط كل الملامح، بينما يرى القريب تفصيلة تجذبه بعيداً عن شمولية ومعنى وغرض اللوحة الأساسى، الكتاب صدرت ترجمته العربية هذا العام (٢٠١٨) منذ شهر تقريباً عن المركز القومى للترجمة، لكن الأصل الروسى صدر ١٩٨٠، لذلك توقفت الدراسة عند مرحلة مجموعة قصص «بيت من لحم» ومسرحية «الجنس الثالث» وغيرهما، لكنها رغم ذلك منحتنا نواة روح يوسف إدريس الإبداعية كلها، وشربنا لمحات جنونه الفنى حتى الثمالة، عبقرية الدراسة أنها تمزج بين يوسف إدريس الفنان ويوسف إدريس المثقف اليسارى الحائر المتمرد على القوالب الجاهزة، والمضطر إلى الالتزام السياسى والحزبى المقيد لجناحى إبداعه، دراسة دقيقة لمرحلة حرجة جداً من تاريخ مصر، أواخر الخمسينات وبداية الستينات، لم تأخذ حقها بعد من التأريخ والتحليل، التضفير الذى لا تحس معه بالافتعال بين المناخ المشكل والمتفاعل مع إدريس، وبين أعماله يجعلك لا تقاوم أن تقرأ قصصه بعين مختلفة حتى ولو كنت قد قرأتها ألف مرة، والنقطة الأخرى المهمة التى تميز تلك الدراسة هى أن مؤلفة الكتاب تربط بين أعمال وأبطال يوسف إدريس وبين مؤلفين آخرين لديهم نماذج شبيهة، مثل اللقطة الذكية فى مقارنة بطل «فى بيتنا رجل» لإحسان وبين بطلى «إدريس» فى قصة حب والبيضاء، دراسة أشبه بالسجادة الفارسية التى فيها مليون خيط ومليون لون، لكنها تشكل فى النهاية لوحة مبهرة وجديدة، وأنا أبحر فى محيط يوسف إدريس الهادر مع فاليريا الروسية، لم أستطع فرملة أو كبح جماح اندهاشى من قدرة تلك التى تعيش على بُعد مئات الآلاف من الأميال على التقاط تفاصيل ومعانٍ مستعصية وملغزة بالنسبة لكثير من المصريين، على سبيل المثال التقاطها لتفاصيل الريف فى رواية «الحرام»، الحارة الساخنة، وهى الآتية من بلاد الجليد والصقيع، مما يدل على أن الفن الصادق الحقيقى عابر للقارات، وأن لغته لا تحتاج إلى مترجم فورى، بل تحتاج إلى إحساس مرهف وعين ذكية وقلب فنان وعقل فيلسوف.