السبت إنما جُعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت، لكن الإنسان نفسه الذى تم منحه تلك الهبة رفض الهدية، وكان له رأى آخر، وصار جندياً فى كتيبة الطقوس، وخادماً للسبت والجمعة والأحد، قضية نتعمق بها إلى جذور المشكلة، إلى مستواها الفلسفى لا السياسى، العميق لا السطحى. هذا السؤال الفلسفى مطروح منذ بداية الأديان جميعاً، هل الدين خُلق لسعادتى، أم أنا الذى خُلقت لإسعاد الدين؟! رغم أن الدين كيان معنوى لا مادى، إلا أن هذا المفهوم الإذعانى الانسحاقى المازوخى هو الذى سكن جماجم البشر منذ فجر التاريخ. نحن، كما قال عبدالرازق الجبران: «كسبنا المصلين وخسرنا الصلاة، ارتفعت المعابد وهبط الإنسان»، وكما شخّص المرض بأن المشكلة ليست فى أن الإنسان خرج على الدين، بل المشكلة أن الدين خرج على الإنسان، وبدلاً من أن يرفع الدين عبء الحياة، أصبح هو بذاته -بنسخة الكهنة- عبئاً على الإنسان. باختصار صار الإنسان كما وصفه الجبران قربان الدين، وصارت الورود التى فى سلال الأنبياء قيوداً فى سلاسل الكهنة! صار النص المتناهى يحكم اللامتناهى، على عكس ما قال الشهرستانى عن وجوب العكس، وصرنا كسكان الصين القدامى، نظن أن كل الرعية خُلقت من أجل جرّ عربة الإمبراطور. نحن بهذا المفهوم صرنا أدوات لا ذوات! ماتت الذات وفجّرت نفسها، متخيلة أنها تعالج جرحها النازف بحزام الانسحاق الناسف. الدين دائماً يبدأ بسيطاً بريئاً سهلاً، يُفهم دون تعقيدات، وينتقل دون وسائط، تتنفس معانيه مع نسائم الفجر، يسبح معك فى النهر، تشمه مع نزول قطرات الندى وهى توقظ الزهر، لكن سرعان ما يتحول إلى شفرة ولغز وغموض وفواتير طقوس عليك أن تسددها، وإلا تم حرقك وسحلك وشويك وسلخك، تصبح كالغارمات مع فرق جوهرى، وهو أن الغارمات يصدر لهن عفو، ولكنك إن لم تسدد الفاتورة للوسطاء من السماسرة الذين حوّلوا الدين من فكرة نبيلة إلى مؤسسة ربح وبورصة مضاربة، مصيرك أسود وطريقك مسدود، يصير سدنة المعبد وحراس الهيكل مدافعين شرسين عن البيزنس والثروة والسلطة، يصبحون فى منتهى العنف والشراسة ضد من يخلخل تلك المنظومة ولو برفق، ويصعد الراسبوتينيون، ويختفى الحواريون، لكن هل تحويل الدين إلى مؤسسة فقط هو الذى ضمن السيطرة على الأدمغة لهؤلاء الراسبوتينيين؟ المؤسسة والسلطة والهيمنة هم الغاية، لكن هناك ما هو أهم كوسيلة للسيطرة، إنه الخوف، ازرع خوفاً تحصد سُلطة، وهذا من الممكن أن يفسر لنا سلوك من يدّعى التدين ويطلق على نفسه المجاهد المؤمن وهو يذبح قائلاً الله أكبر. رغم أن أقرانه يصفونه بالشجاعة، إلا أننى أصف ما يفعله بأنه قمة الخوف، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف برتراند راسل حين ربط بين هذا المتدين وبين خوفه فى محاضرته الشهيرة 1927، عندما قال إنه «يستند بالدرجة الأولى، وبشكل أساسى، إلى الخوف، إنه جزئياً رعب غير معروف وجزئياً الرغبة فى الشعور بأن لديك أخاً كبيراً سيقف بجانبك فى كل مشاكلك ونزاعاتك. الخوف هو أساس كل شىء؛ الخوف من الغموض، الخوف من الهزيمة، الخوف من الموت. هو والد الوحشية». وبالتالى لا يتعجب إذا كانت الوحشية قد تملكت ممن يسمى نفسه بالمتدين، لأن الخوف -كما يقول- هو أساس هذين الأمرين. والخوف من الناحية البيولوجية بتبسيط، أرجو ألا يكون مخلاً، لأن مسألة التعامل مع الخوف أكثر تعقيداً، يشل ما يسمى بالـcerebral cortex القشرة الدماغية التى أثناء رحلة التطور صارت المميزة للإنسان العاقل، وهى المهيمنة على التفكير والتحليل والذكاء والإبداع، ودورها بسيط أو منحسر فى حالة الخوف والرعب الشديد، وتترك الحرية والسيطرة للدماغين البدائيين أو الأوليين اللذين كان أحدهما، هو الـbrain stem، وهو المميز للزواحف والمسئول عن الأشياء البدائية الأوتوماتيكية، مثل تنظيم درجة الحرارة وضربات القلب والنوم واليقظة... إلخ، والدماغ الثانى، وهو الدماغ المتوسط، الـmidbrain الذى ارتقت به الثدييات درجة أعلى، وهو المسئول عن مواجهة الخطر بتدفق الدم للعضلات وزيادة ضربات القلب والتعرق والتنفس.. إلى آخره من الأشياء التى تعينك على الهرب أو المواجهة. ولكن تظل الأسئلة تتوالد وتتناسل من علامات الاستفهام الأولية التى نطرحها فى طريق فهم سيكولوجية المتدين. لن نقف عند الجدل العقائدى بأن هذا الشخص ليس متديناً حقيقياً، وبأنه لا يمثل الدين الحقيقى... إلخ. الذى يتحول لوحش كاسر فجأة، هو من وجهة نظرنا حدث فجأة، ولكنه تم بالتدريج عبر البرمجة الدينية. وقد قربت د. وفاء سلطان تلك البرمجة التى تؤدى لهلاك المبرمَج بتشبيه من مملكة الحشرات، فقد احتار العلماء فى تفسير سلوك النملة التى تصعد على ساق العشب وتكرر صعودها دوناً عن بقية زملائها، رغم أن تجربتها تؤكد أنه لا غذاء على هذا العشب، ولا رفيق جنسياً، ومن المؤكد أنها لا تصعد للتنزه أو السياحة، ماذا اكتشف العلماء، وكيف فسروا هذا السلوك؟ تقول د. وفاء: «إصرار علماء السلوك على فهم تلك الظاهرة قادهم إلى اكتشاف طفيلى صغير، دودة Dicrocelium dendriticum يقوم باختراق دماغ النملة ويعشش هناك. هذا الطفيلى، ولكى يكمل دورة حياته، يجب أن يمر بطور يعيش خلاله فى أمعاء البقر، ونظراً لأهمية ذلك الطور، ولكى يحافظ على بقائه، يقوم الطفيلى ببرمجة دماغ النملة برمجة تقودها إلى تكرار ذلك السلوك، على أمل أن تنتهى العشبة والنملة، ومعهما الطفيلى، فى معدة البقر التى تشكل بيئة مناسبة لذلك الطفيلى كى يكمل دورة حياته ويحافظ على بقائه. إن النملة المبرمجَة هى مثل أبطال الإغريق الذين يصعدون إلى حتفهم القدرى مساقين إلى الموت الذى لا فكاك منه، فالطفيلى يغسل الدماغ ويزيف الوعى ويجعل موت هذه الحشرة هو الجسر الذى يصل به، والسلم الذى يصعد إليه لاستكمال دورة حياته، يقتلها. والعجيب والغريب والمدهش أنها تكرر محاولة الانتحار وهى مغيَّبة مبرمَجة لتقدم نفسها قرباناً لهذا المتطفل الذى اخترق واحتل دماغها! مثل الفيروس الذى يبرمج نواة الخلية على خدمته هو، تدمر نفسها من أجل هيمنته. أسئلة العلمانية وتجديد الخطاب الدينى والتفرقة ما بين الثابت والمتغير فى التراث...إلخ، بالطبع أسئلة مهمة، ويحتاجها مجتمعنا الكسول فكرياً، لكنها تظل أسئلة الممارسة اليومية التى تهم الشارع ويقتات عليها، ليست أسئلة وجودية تأسيسية فارقة، لا تتجاسر بروح الفيلسوف على أن تطرح علامة استفهام عن معنى الوجود وجوهره أصلاً، فتظل فى شرنقة برامج التوك شو التيك أواى، بعيدة عن مناقشات سقراط المزعجة شهيد السؤال والبحث عن الحقيقة، وإذا لم نمتلك حرية التنقيب عن الجذور سنجوع ونموت ونحن نبحث عن الثمار التى انقطع عنها رحيق الحياة بسبب تعفن وموت ما هو فى عمق الأرض بسبب خشيتنا وفزعنا ورعبنا من التنقيب والبحث والسؤال وتحريك التربة، إلى أن نموت ونسكن التربة!