«أنت لا تستطيع أن تستحمّ فى النهر نفسه مرتين»، قاعدة فلسفية اخترعها الإغريق، «أنت تستطيع أن تستحم وتغرق فى نفس البركة ألف مرة»، قاعدة تاريخية رددها، ويرددها، المسلمون حتى هذه اللحظة، برغم أننا نعرف أن التغير هو الثابت الوحيد، وأن الزمن حركة ديناميكية، إلا أننا جعلنا الماضى وثناً، والجمود عقيدة، والاجترار وظيفة، والسكون فلسفة، والموت مصيراً، وما قبل التاريخ مستقبلاً، فصار خير القرون هو القرن الهجرى الأول، وأصبح أبدع مما كان ليس فى الإمكان، وباتت البدعة ضلالة وصاحبها فى النار، الإبداع كلمة سيئة السمعة فى قاموسنا التراثى، والتكرار والترديد والتلقين والحفظ والصم هى الأيقونة حسنة السير والسلوك، نقع فى الخطأ التاريخى نفسه ألف مرة ومرة، برغم أن شريط الأحداث يتكرر، وكأنه بَكرة سينما وقفت وتعطلت عند الكادر نفسه، برغم أن الفلاسفة المسلمين وصفوا الزمن بالحراك والتغيير والديناميكية، فإن الفقهاء أصحاب السيادة والسطوة والحق الحصرى فى أمخاخنا كان لهم رأى عكسى مضاد، عرّف «الكندى» الزمن بأنه مدة الحركة أو هو عدد الحركة، لأن فكرة الزمان تمكّننا من معرفة السرعة والبطء فى الحركة. بينما (الآن) ما هى إلا أداة تصل الزمان الماضى بالحاضر، ولما كان هناك بقاء لها، فهى ليست زماناً، وإنما هى إدراك لمعنى الزمان، لأن الزمان لا وجود له فى ذاته، وعرّف ابن سينا الزمان على النحو الذى عرّفه به أرسطو بأنه: «عدد الحركة إذا أفصلت إلى متقدم ومتأخر لا بالزمان، بل بالمسافة، وإلا لكان بيان وجوده بيانياً دورياً». وعرّفه ابن رشد بأنه يراه قديماً أزلياً، وأن وجوده بيّن بنفسه، وأعده أحد أصناف الكم ولكون أجزائه، إما ماضياً، وإما مستقبلاً، وأنه ليس شيئاً منه يمكن أن يشار إليه بالفعل، فإن أقرب شىء يشبه هو الحركة، ولا يمكن أن نتصور زماناً إن لم نتصور حركته.. إلخ، برغم غرابة الصياغة اللغوية المهجورة، فإن هناك كلمة متفقاً عليها بين هؤلاء الفلاسفة المسلمين وهى الحركة، أعتقد أننى أنا وأنت ونحن جميعاً ومن لديه أدنى حس لغوى أو معرفة ببديهياتها نعرف معنى كلمة الحركة، فهل رجال الدين عبر تلك العصور لم يعرفوها أو عرفوها وتجاهلوها، أم أن لها معنى آخر عندهم وترجمة مختلفة لديهم!، صارت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، صادروا التفاعل التاريخى لصالح تحنيط النصوص، حشروا العصا النصية فى ترس الحركة التاريخية، فصار التاريخ متحفاً للشمع، وليس شريطاً سينمائياً، وتم وضع الزمن فى برطمانات الفورمالين بدلاً من خيمة الأكسجين، محاولات تطعيم الفكر الإسلامى بمفهوم الحركة والزمن المتغير باءت بالفشل، مثل النسخ الذى وصفه السلفيون بأنه غير ناتج عن تحوّلات الواقع، بل هو راجع لمحض إرادة مطلقة لله، ومحاولة من السلفيين لتأميم أكثر وتكميم أعنف لإجهاض أى ديناميكية قرآنية خرجوا علينا بأن السنة من الممكن أن تنسخ القرآن نفسه، وبالطبع تنسخه لصالح الجمود وليس لصالح حيوية الفهم أو تأويل المعنى!، وسنتحدث بالتفصيل فيما بعد فى فصول مقبلة عن خلفية، وتأثير تلك المحاولات على مسار الفكر الإسلامى ووضع القيود فى رسغه وكاحله، هذا التحنيط الزمنى سجننا فى نموذج إنسان القرون الوسطى التقليدى، الذى يصفه محمد على المحمود فى كتابه «تكفير التنوير» بقوله: «إنسان القرون الوسطى التقليدى ماضوى بامتياز، لا شىء يفزعه، مثل الجديد والمغاير. هو كائن مرعوب يتلمس الحماية فيما عرفه وجرّبه، كما أنه كائن كسول يكتفى بمقولة: «حسبكم، فقد كفيتم»، عقله التقليدى لا يطيق الابتكار»، هذا النموذج الذى يصادر حركة الزمن لصالح سكون وثبات النص، نموذج ليس فردياً، بل هو مجتمع بأكمله متخم باليقينيات، مشبع بالقطعيات، منتفخ كالبالونة حتى نقطة الانفجار بالمسلمات والثوابت، هذا المجتمع تستحيل فيه المغامرة النقدية، ويحرم فيه السؤال الخادش لليقين، يخلق فى هذا المجتمع معنى مختلف للحوار، فيصبح الحوار، كما وصفه المحمود فى «تكفير التنوير»، ص100، التقليدى يتصور أن غاية الحوار هى الاتفاق التام فى الرؤية، لا يراد منه تحقيق الفهم، ومن ثم التفاهم مع بقاء الاختلاف، يتوهمونه آلية تنميط، وفرضاً قسرياً للقناعات، هذا المواطن أو بالأصح فرد الرعية، لأنه لا يعيش كمواطن على أرض وطن بل يعيش كواحد من الرعية فى مضارب القبيلة، أقصى طموحه أن يستكمل العيش لا أن يطور الحياة، يمارس التمرين الشهير «الجرى فى المكان»، ولا ينافس فى ماراثون العدو الطويل وقفز الحواجز، طموحه هو مجرد البقاء لا الوجود، وهناك فرق كبير، يوضحه د.شوقى جلال فى كتابه «لماذا العلم»، حين تساءل فى مقدمته: هل نحن نحارب من أجل الوجود أم البقاء؟، فالوجود مشروع إرادى قائم على الفكر والفعل الاجتماعيين تأسيساً على أعلى مستوى لإنجازات حضارة العصر، أما البقاء فهو حياة الاطراد العشوائى، العاطل عن فعل الإبداع والتجديد، امتداد فى المكان بغير زمان حيث لا تغيير، سؤال بقاء أم وجود، الذى طرحه د. شوقى جلال، سؤال مفصلى وتأسيسى، وإجابته تضعنا أمام مرآة أنفسنا فى مواجهة صعبة، مواجهة تصبح مخجلة إذا صارحنا أنفسنا بالحقيقة التى نعيشها الآن، بأننا يا دوب فكرياً على حافة البقاء، بعيدون حتى عن خط التماس مع الحداثة، وكما هى صعبة ومحرجة إجابة سؤال البقاء أم الوجود، هناك إجابة أخرى تحتاج حسماً طرح سؤالها أيضاً نفس المفكر وهو الاختيار ما بين ثقافتين، ثقافة الوضع وثقافة الموقف، ثقافة الوضع التى نحن غارقون فيها حتى الذقون، مخمورون بها حتى الثمالة، هى ثقافة قانعة بحالها راضية برصيدها التاريخى الموروث، والعلم الأسمى لا يتجاوز حدود تأمل هذا الرصيد، ثقافة متسولة تقف على قارعة الطريق تندب حظها وتفاخر بماضيها، أما ثقافة الموقف التى تنقصنا بل ونعاديها بشراسة هى ثقافة إرادة واختيار وفهم وتراكم متجدد متطور، ثقافة تخوض غمار نهر الحياة، لا تخاف من السباحة فى مياهه المتجددة، لأنها ثقافة تعرف أن التجدد مصدر صحة ودليل عافية، لذلك ثقافة البقاء التى تفهم الاستقرار على أنه الموت حتى التعفن، وثقافة الوضع التى تكرس للوضع التى هى عليه، تلك الثقافة تعاملها مع التاريخ تعامل سيكوباتى مريض، هى ثقافة تمجيد أكاذيب، لا تسجيل حقائق، ثقافة تعتز بنرجسيتها، لكى تبتزّ تابعيها، هكذا نتعامل مع التاريخ، عندما نجد فى أحداثه ما يدلّك غدة النرجسية والأفضلية والتفوق، وما يؤكد أننا خير الأمم وطليعة الشعوب، نهتف هذه مقدسات، وعندما نجد فى أحداثه ما يشيننا ويخجلنا ويجرح نرجسيتنا ويخدش تميزنا وينزع ريش طاووسيتنا الملون، سرعان ما نصرخ هذه إسرائيليات!!، مَن الذى يحدد ويفرز المقدسات من الإسرائيليات؟، ومن الذى يحرك عقارب الزمن، فيبث الحياة والحركة، ومَن الذى يتشبث بثقله فيها فتظل مكانها لا تبرحه؟!، لكى تعرف الإجابة، ارجع إلى الفقرة السابقة، وتذكّر التمرين الشهير الجرى فى المكان، ومن فضلك أضف على اسم التمرين حروفنا وبصمتنا، ليصبح: «الجرى فى المكان، والثبات فى الزمان».