اختزال المبدعين في تصرفات شخصية وسلوكيات ذاتية، هو روتين مصري منذ عشرات السنين، وساهم فيه الإعلام بقدر كبير، وأعطيكم مثالاً واحداً ظلمه هذا الحصار، وجعلنا ننسى إبداعه، ونقزم من قامته العملاقة، إنه توفيق الحكيم، لقد اختصره الإعلام صحافة وإذاعة وتليفزيونات منذ الستينات، واختزله في صورة كاريكاتيرية، تارة يصفونه بالبخل، وحكايات عن تقتيره وبخله ومحفظته التي لا يخرج منها جنيه.. إلخ.ثم وصفوه بعدو المرأة، يكرهها وينفر منها، ويعتبرها جنساً أدنى، وافتعال معارك بين الحكيم وبين المرأة، الحكيم هو العصا والقبعة، الحكيم هو صديق الحمار... إلخ، ليست المشكلة في إلصاق تلك الصفات بكاتب كبير مثل «الحكيم»، فكثير من كبار الأدباء الأوروبيين لهم مغامراتهم وحكاياتهم الشخصية وقصصهم التي أحياناً تتجاوز إلى حافة الوقاحة، لكن الجمهور هناك يستطيع الفصل بين تلك الصفات الشخصية والمكانة الأدبية، يتحدثون في فرنسا عن علاقة سارتر بسيمون دي بوفوار، لكنهم يحفظون وجودية سارتر ومسرحياته عن ظهر قلب، ومن الممكن أن يحدثك طالب ثانوي في فرنسا عن مسرحيته الذباب أو كتاباته المناهضة للحرب.. إلخ.لكن ماذا حدث عندنا بالنسبة لتوفيق الحكيم؟، صار الحكيم هو البخيل فقط، عدو المرأة فقط، العصا والكاسكيت فقط! لكن هل يعرف شبابنا اليوم أو حتى كبارنا دور توفيق الحكيم في المسرح؟، هذا العملاق الذى ترك بريق القضاء والنيابة ليذهب إلى عشقه، نادته نداهة المسرح، هل ناقش أحد الحكيم في الإعلام من تلك الزاوية، أم أن البرامج حصرته وحاصرته في البخل وعداوة المرأة؟!من الممكن أن نقول إنه مؤسس المسرح المصري الحديث، وتطور هذا العملاق مع أحدث التجارب المسرحية العالمية، حتى مسرح العبث، كتب فيه توفيق الحكيم، هل نوقش كروائي؟، لو كتب «يوميات نائب فى الأرياف» فقط لكفاه، توفيق الحكيم تناوله المفروض ألا يكون بتلك السطحية والسذاجة، فهو عندما يدخل معركة يحدث ثورة من مجرد مقال.ولنتذكر معركة عودة الوعى بينه وبين الناصريين، معركة عروبة مصر، وهل مصر عربية أم غير عربية؟، معركته مع الشيخ الشعراوي حين كتب حواره مع الله، رجل بهذا الثقل، وكاتب بهذا العمق، ومبدع بتلك المكانة، المفروض ألا يتم اختزاله بهذه البساطة، كان توفيق الحكيم مجرد مثال ونموذج، وكم من الكتاب والمبدعين اختزلناهم وأهملنا جوهرهم الإبداعى وركزنا على الخارج والسطحي والقشور، العقاد اختزله النقاد وحوله الإعلام فى النهاية إلى عاشق لفنانة، طلب من رسام أن يرسمها وعلى وجهها ذباب!.شاعر كبير نختزله في الحشيش، رسام عظيم نختزله في علاقة نسائية، مفكرة كبيرة مثل نوال السعداوي، كانت البرامج تستضيفها من أجل حوارات صراع ديوك وافتعال خناقات وهمية، وتناسينا كتاباتها الرائعة وإبداعاتها الروائية والمسرحية، ودفاعها عن قضايا المرأة بجرأة وجسارة، حتى الرجل الطيب المسالم جمال البنا والذي له كتابات مهمة في مجال تجديد الفكر الديني، اصطادوه واختزلوه في قضايا سطحية وفتاوى بهلوانية، وحولوا الرجل للوحة تنشين جاهزة، واستضافات لناس تتطاول عليه وتسبه وتشتمه، منتهى الظلم أن نختزل ونقزم قاماتنا الفكرية بهذا الشكل.