كتاب قديم وقع فى يدى مصادفة وأنا أعيد ترتيب المكتبة، الكتاب اسمه «مذكرات طبيبة» من سلسلة اقرأ، المؤلفة د. نوال السعداوى، سعدت به أيما سعادة، خاصة أنه مكتوب بطريقة سرد روائية رائعة، وبجرأة وجسارة نوال السعداوى المعروفة التى سبّبت لها مشكلات كثيرة، دفعت بسببها فاتورة غالية وباهظة الثمن من الصحة والسمعة والأمان، لكنها كانت من القلة التى أصرت على موقفها حتى آخر نفس. أختار لكم الجزء الذى تحكى فيه عن مرحلة دخولها كلية الطب، تقول السعداوى:‏«كلية الطب، نعم الطب، للكلمة وقع رهيب فى نفسى يذكّرنى بنظارة بيضاء لامعة من تحتها عينان نافذتان تتحركان بسرعة مذهلة، وأصابع قوية مدببة تمسك بإبرة طويلة حادة مخيفة، ‏أول طبيب رأيته فى حياتى كانت أمى ترتعد من الخوف، وتتطلع إليه فى ضراعة وخشوع، وكان أخى ينتفض من الهلع، بينما كان أبى راقداً فى الفراش ينظر إليه فى استجداء واسترحام.‏الطب شىء رهيب، رهيب جداً، تنظر إليه أمى وأخى وأبى نظرة احترام وتقديس.‏سأكون طبيبة إذاً، سأتعلم الطب وسأضع على وجهى نظارة بيضاء لامعة، وسأجعل عينى من تحتها نافذتين تتحركان بسرعة مذهلة، وسأجعل أصابعى قوية مدببة، أمسك بها إبرة طويلة حادة مخيفة.‏سأجعل أمى ترتجف من الخوف، وتتطلع إلىّ فى ضراعة وخشوع، وسأجعل أخى ينتفض أمامى من الهلع، وسأجعل أبى ينظر إلىّ فى استجداء واسترحام.‏سأثبت للطبيعة أننا بالرغم من ذلك الجسد الضعيف الذى ألبستنى إياه، وبالرغم مما فى داخله وخارجه من عورات فسوف أتغلب عليه، وسوف أضعه فى زنزانة من حديد عقلى وذكائى، ولن أمنحه فرصة واحدة يشدنى إلى صفوف النساء العجماوات.‏وقفت فى فناء كلية الطب أتلفت حولى، مئات العيون تصب علىّ نظرات فاحصة لاذعة، رفعت رأسى ورددت عليهم بمثل سهامهم.‏لماذا ينظر إلىّ الطلبة فأغض طرفى؟، لماذا يرفعون رؤوسهم وأطرق رأسى؟، لماذا يدبون على الأرض فى كبرياء وثقة، وأنا أتعثر فى خطاى، أنا مثلهم وسأكون مثلهم بل سأتفوق عليهم، ففردت قامتى الطويلة عن آخرها، نسيت النهدين، وتلاشى ثقلهما من فوق صدرى، شعرت بأننى خفيفة وبأننى أستطيع أن أتحرك بسهولة كما أشاء، لقد رسمت لنفسى طريقة حياتى، طريق العقل ونفذت قرار الإعدام على جسدى فلم أعد أشعر له بوجود.‏وقفت على باب المشرحة، رائحة نفاذة عجيبة، جثث آدمية عارية فوق منضدة رخامية بيضاء، حملتنى قدماى إلى الداخل فى وجل، واقتربت من إحدى الجثث العارية، وقفت إلى جوارها، جثة رجل عارية تماماً، الطلبة من حولى ينظرون إلىَّ ويبتسمون فى مكر.وينتظرون ماذا أفعل، أشيح بوجهى عن الجسد العارى وأجرى خارجة من المشرحة، ولكن لن أفعل ذلك. نظرت إلى جانبى ورأيت جثة امرأة عارية وإلى جوارها بعض الطلبة ينظرون إليها فى جرأة وقوة. ‏سلطت نظراتى على جثة الرجل فى جرأة وقوة، وأمسكت المشرط فى يدى».إنها ليست مذكرات طبيبة عادية ولكنها مذكرات طبيبة ستحمل المشرط لتشريح حياة اجتماعية لمجتمع كامل.